مهند ذويب - النجاح الإخباري - هُناك في المَدينة التي كوّنها المَجازُ بيديهِ الحانيتين، تمشي الطّرقاتُ فيكَ، وتَتبعُ أنتَ ظلّك الذي لا يُشبِهك، تحييكَ الأزقّة مرتاحَة لوجودِك الصّلبِ في هلاميّة الجدائِل العابِرة، وهُناكَ أيضًا تمسِكُكَ القداسَة من ذراعِك اليُمنى، تطلُبكَ لجولةٍ أخرى؛ لأنّ درجات باب العامود، والسوق، وأيدي بائِعات الزّعتر الجبليّ، والقبّة الشّمس وآلاف التّفاصيل لم تلمسكَ حدّ الاكتفاء، ولم ترتوي مِن غيابِك المُجهَدِ المُجهِد، هُناكَ فقط تتغيّر سيميائيّة الأشياء، وتختَلف دلالاتُها واستِخداماتُها، فالأجسادُ في تموزَ الماضي كانَت متراسًا للمدينة المتراس، والحناجِر أصبَحت أجراسًا ومآذنًا، وستُصبحُ أنتَ وحدَكَ فيها: "لا هُناك ولا هُنا".

إنّها القُدس، التي نافَست الأبجديّة فترة جيّدة من الزّمن، واستأثَرت بآلافِ الأوراقِ وأنهارِ الدّمِ المِداد، تحضُر هذا العامَ "ضيفَ الشرف" على معرضِ فلسطين الدوليّ للكِتاب الذي يأتي بعنوان: "فلسطين الوَطن .. القدس العاصمة"، وتَسيرُ على قدميها المجازيّتين، لتقرأ بنفسِها ما كُتبَ لها، وكتبَ فيها، وكُتِبَ منها، للمرّة الأولى في تاريخِ معرضِ الكِتاب الفلسطينيّ، كردٍ شخصيّ مِنها على ما "كتب عليها" من ادّعاءات ترامب والإدارة الأمريكيّة التي نسيت في غُمرة ظنّها العلوّ أحقيّة الهُنودِ بواشنطُن العاصِمة، وكردٍ هزليّ على قرارِ نقلِ السّفارة، فكيفَ يصدّق العالم ترامب الذي سينقلُ السّفارة إليها في منتصفِ حزيران النّكبة أنّها عاصِمة لولايته الشّرقيّة وهي تقومُ بجولتها الدّبلوماسيّة عالية شامِخة، وتقرأ نفسها في ملايين الكُتب التي تتربّع حولها، وترى تفاصيلَ جسدها في عيونِ كلّ فلسطينيّ، إنّها ضيفُ الشّرف في بيتِها الأبديّ، ودولَتها التي تقول لترامب اليوم: القدسُ ما زالت على الطاوِلة، أو على الرؤوس للدّقة !

أعتقدُ أنّ اختيارَ القدسِ "ضيفَ الشّرف" في معرضِ فلسطينَ الدوليّ للكتاب أمرٌ مربِكٌ جدًا، فرغمَ كلّ ما نعرفه عن عاداتِ المدينة، وطقوسِها، إلّا أنّنا سَنكون أمامَ تحدٍ صعب، في إرضائِها، والخروجِ بعملٍ يليقُ بها، لهذا سيكونُ معرضُ الكتابِ لهذا العام أكبر مساحَة، إذ سَتصل مساحَته الإجماليّة نحو 8000 مترٍ، وسيكونُ أكثَر تنظيمًا، وأناقة، وشموليّة ليستَقبلَ الضّيفَ الأهمّ في تاريخه، بجهودٍ حثيثة من وزارة الثّقافة والمؤسّسات الشّريكة، وعلينا أن نفكّر كثيرًا نحنُ في المُدن الفلسطينية الأخرى كيفَ سنستقبلُ القدس، وأيّ قصيدة عسكريّة سنرتَدي لها !

بعيدًا عن هذا، وقريبًا منه في ذاتِ الوقت أعتقدُ أنّنا في مرحلةٍ سياسيّة حرجة، فقد أكملت إسرائيلُ طوقها الاستيطانيّ حولَ المدينة، واستَطاعَت - كما قلتُ كثيرًا – إدارة الصّراع، وكسبَ المزيدِ من الوقت؛ لتنفيذِ مشروعِها الاستيطانيّ الإحلاليّ، وتواصِل تضييقها على المَقدسيين، وإجراءاتِها العنصريّة، وتطبيقها لما يسمّى (صفعة) القرن بشكلٍ جديّ على الأرض، أمام كلّ هذا سَنكونُ ريشَة في مهبّ الريح، إن لم يَقف وعيُنا وقفة حقيقيّة، ولم تكن الثّقافة وهذا المعرضُ دعوة صادِقة لتوحيدِ الجهود، خاصّة أنّه يأتي في ظلّ عقدِ المجلسِ الوطنيّ الذي تواصِل فصائِلُ عِدة رفضها المُشارَكة فيه، وتكتفي بالتّنظيرِ، والممارَساتِ التي لم يعد لها تفسيراتٌ كثيرة الآن، خاصّة بعدَ استمرارِ مسيرات العودَة في قِطاع غزّة، هذا المعرض الثّقافيّ الوطنيّ يعلمُ أنّ تحريرَ العقلِ مقدّم على تَحرير الأرض، تمامًا كما يعلمُ أنّ الثقافة جسرُ التّحرر، والبِناء، ووحدة العَمل الوطنيّ.

أرجو أن تَكونَ "استِضافة القدس" المتزامِنة مع عقد المجلسِ الوطنيّ بداية عهدٍ فلسطينيّ نِضاليّ جديد، وأن لا نقولَ يومًا على غِرار ما قالَ عبد الرّحيم محمود:

" القدسُ هل جاءَت تزورُ حُماتَها ** أم أنّها جاءَت تودّع نفسَها "