نعيم اﻷشهب - النجاح الإخباري - يمكن القول بأن التحذيرات الروسية الحازمة، ردا على تهديدات ترامب العنترية ، قبل العدوان الاميركي-الغربي على سوريا، وتماسك وصلابة محور المقاومة ، هي التي حدّدت المستوى المتدني والطابع الرمزي لهذا العدوان، وبالمقابل ، حدّد هذا المستوى من العدوان الشكل الذي تعاطت به موسكو ومحور المقاومة مع نتائجه.

فأوﻻ - تحاشى منفذو العدوان تماما استهداف أية مواقع ليس لروسيا وحسب، بل وﻹيران وحزب الله، في سوريا، وتأكيدهم، في الوقت ذاته، أنهم ﻻ يستهدفون اسقاط النظام السوري. وهذا ما أصاب كلا من إسرائيل والسعودية بحالة من اﻹحباط الشديد، بخاصة بعد فقدان آخر معاقل الارهابيين في الغوطة الشرقية، بخروج «جيش اﻹسلام » مهزوما، وكان يمثل آخر الرهانات، فوق اﻷرض السورية، كخنجر مسموم في خاصرة العاصمة السورية دمشق.

ثانيا - أنه برغم إنكار واشنطن إعلام موسكو مسبقا عن خطة العدوان، فباريس، من جانبها، أكدت العكس ؛ وهذا يعني أن المواقع التي استهدفها العدوان كانت خالية ومهيأة لـ"مسرحية"، غرضها مساعدة ترامب على النزول من فوق الشجرة العالية التي تسلقها حين كان يطلق تهديداته بلا حساب وﻻ حدود. بل إن بعض المواقع التي استهدفها العدوان بالصواريخ كانت مناطق مدمرة من غارات عدوان سابق. أما الضحايا البشرية، فثلاثة جرحى مدنيين فقط. وبالنسبة لنا في اﻷراضي المحتلة، يسقط في أية مظاهرة سلمية، برصاص المحتلين الاسرائيليين، أضعاف أضعاف هذا الرقم، شهداء وجرحى.

ثالثا - إذا كان التحالف الثلاثي اﻷميركي- الفرنسي - البريطاني قد أطلق في هذا العدوان ١٠٥ صواريخ ، كما أعلنوا، فقد تمّ إسقاط ٧١ منها بالمضادات السورية وبخاصة صواريخ «س٢٠٠». وكما تشير مصادر روسية يجري، اﻵن، بحث جدي بتزويد سوريا بصواريخ «س ٣٠٠» اﻷكثر حداثة وتطورا. وهذا ما يضاعف قلق اسرائيل، في وقت تتوقع فيه ردا ايرانيا على عدوانها على قاعدة "تي فور" في سوريا، الذي تسبب في مقتل سبعة إيرانيين.

رابعا - أن التحالف الذي نفذ هذا العدوان كان ضيقا بشكل ملفت للنظر هذه المرة، واقتصر على الدول الثلاث التي نفذته، بينما بقية الدول الغربية اﻷخرى مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وكندا، امتنعت عن المشاركة، حتى ولو الرمزية. وفيما يتعلّق بمشاركة بريطانيا في هذا العدوان، فقد انتقد زعيم المعارضة، ورئيس حكومة الظل العمالية، جيرمي كوربين، بشدة هذه المشاركة ، قائلا:" كان على رئيسة الوزراء تيريزا ماي السعي للحصول على موافقة البرلمان بدﻻ من تلقي التعليمات من واشنطن"، كما أن أعضاء في حزب ماي نفسه انتقدوا هذه المشاركة. وبينما أعلن الرئيس الفرنسي ، ماكرون، أنه اقنع الرئيس اﻷميركي ترامب على البقاء في سوريا، جاء بيان من البيت اﻷبيض يؤكد عزم ترامب على اﻹنسحاب من هناك في أقرب وقت، مما يعكس حجم اﻹرباك في صفوف المعتدين. أما في العالم العربي فلم يؤيد هذا العدوان سوى السعودية والبحرين وقطر، بينما عارضته أو تحفظت عليه بقية الدول العربية. في حين عبّر الشارع الشعبي العربي على امتداده رفض هذا العدوان والتضامن مع سوريا، سواء بالمظاهرات، كما جرى في العراق وتونس واﻷراضي الفلسطينية المحتلة وفي حيفا داخل إسرائيل بمبادرة من الحزب الشيوعي اﻹسرائيلي والجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة وجبهة التضامن مع سوريا، أو بأشكال أخرى، هذا الى جانب مظاهرات اﻹستنكار واﻹدانة لهذا العدوان في اﻷمريكيتين وفي عدد من الدول اﻷوروبية.

أما ذريعة هذا العدوان، وهي الزعم باستعمال النظام السوري للغازات السامة، فقد غدت "كليشيها" ممجوجاً وباهتاً، لزيفها المفضوح وكثرة استعمالها، حيث يجري اللجوء إليها كلما كانت عصابات المرتزقة التي يستخدمها التحالف المعادي لسورية، في مأزق أو عقب هزيمة استراتيجية، كتصفية وجودها في حلب أو الغوطة الشرقية؛ وذلك بهدف رفع معنويات هذه العصابات وتأكيد استمرار دعمها. والمفارقة، أن واشنطن وحليفتيها في هذا العدوان، أقدمت على ارتكابه، ليس فقط دون تفويض من مجلس اﻷمن، بل وبزعمهم تمثيل المجتمع الدولي في هذا الجرم. وقد سارعوا في ارتكابه، في نفس اليوم الذي كان وفد لجنة حظر اﻷسلحة الكيماوية ، التابعة للأمم المتحدة، في طريقه الى سوريا للتحقيق في تلك المزاعم، ليسدّوا بهذا العدوان الطريق على أي تحقيق نزيه يعري تزويرهم. وكان من دواعي السخرية أن أتبعوا العدوان بدعوة مجلس اﻷمن لتشكيل لجنة تحقيق، على هواهم. أي تحقيق بعد العدوان ﻻ قبله ! على طريقة تقليد صيني قديم يعاقب الخادم قبل أن يقوم بغسل الصحون، ﻻحتمال كسره أيا منها خلال تنظيفها.

وإذا كان هذا العدوان لم يؤثر مطلقا على الوقائع على اﻷرض السورية ، ولم ينل من انتصارات الجيش السوري وحلفائه ومواصلتهم تطهير بقية البقع التي ما تزال تحت سيطرة عصابات اﻹرهاب الدولي ، بعد تطهير الغوطة الشرقية من فلول هذه العصابات ، فقد كان هذا العدوان، بالمقابل، مؤشرا واضحا على الحدود التي تراجعت اليها قدرات واشنطن على العدوان في المنطقة، في ضوء المتغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم لغير صالح المحور اﻹمبريالي - اﻹسرائيلي - الرجعي هذه المتغيرات التي انعكس تأثيرها، ولو في حدّها اﻷدنى ، على قرارات القمة العربية اﻷخيرة في السعودية، رغم شكليتها، وذلك بتأكيد هذه القرارات على حقوق الشعب الفلسطيني القومية وعلى عروبة القدس المحتلة، الى حدّ تسمية تلك الدورة بقمة القدس.

ولكن بمقدار ما تعكس هذه التسمية ، فإنها انعكاس، بالمقدار نفسه، لتعقد الأزمة والارتباك تحت ضغط التطورات المعاكسة لنشاط بعض الأنظمة التآمري على الشعوب العربية وعلى القضية الفلسطينية، وهي التي نذرت نفسها للضغط على الجانب الفلسطيني للتخلي عن القدس لصالح المحتلين اﻹسرائيليين، في الوقت الذي يصادرون فيه جميع حقوق الشعب الفلسطيني. كما ترمز تلك القرارات للقمة المذكورة، من جانب آخر، الى أن مصير "صفقة القرن"، التي راهن عليها هؤﻻء الحكام لتصفية القضية الفلسطينية، وفتح طريق التحالف الرسمي والعلني مع إسرائيل، هو رهان على سراب. فجميع هذه التطورات راحت تصبّ في صالح القضية الفلسطينية وضد أعدائها.

ومن العلامات الفارقة لمسارالتاريخ المعاصر، أن نظامين إقليمي و دولي جديدين وواعدين يتّم إرساء قواعدهما، اليوم، فوق اﻷراضي السورية بالذات.