فاتنة الدجاني - النجاح الإخباري - نسمع باستمرار هذه الأيام، وعلى لسان أكثر من سياسي عربي، تحذيرات مما قد يحمل آذار (مارس) من خطرٍ داهم، وربما عقابٍ متضمنٍ في «صفقة العصر» التي تحبك خيوطها إدارة الرئيس دونالد ترامب.

هذا التوجس لا يتعلق بفحوى «الصفقة» وحده. فالرؤساء الأميركيون، في نصف القرن العشرين، جربوا «مبادراتهم» في المنطقة وفي مفاصل الصراع العربي- الإسرائيلي، لكنهم مضوا جميعاً دونما تأثير يُذكر، باستثناء اتفاق كمب ديفيد الذي صار البوابة الإجبارية لعبور المنطقة إلى مستقبلها في كل كبيرة وصغيرة.

لا. هذا التوجس مرده إلى أن «صفقة العصر» لا تتم بالتفاوض أو التراضي الإقليمي والدولي، كما في كمب ديفيد أيام الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، بل عبر إملاءات يضع فيها ترامب الأطراف كافة أمام الأمر الواقع، ويصبح المطلوب من الجميع التنفيذ القسري، وعلى حساب المنطقة.

هذه الأيام، لم تعُد سراً الخطوط العريضة للإملاءات الأميركية، بدلالة ما رشح من تفاصيلها في غير محفل، وبما لمسناه في التعامل مع قضية فلسطين. فالرئيس الأميركي يزيح عن الطاولة الملفات الأساسية واحداً تلو الآخر، بدءاً من الاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، وإسقاط صفة «محتلة» عند الحديث عن الأرض الفلسطينية، إلى تجميد الدعم لـ «وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا) كخطوة أولى نحو إلغاء «حق العودة»، ثم استتباعاً، وبالضرورة، فرض «توطين» اللاجئين الفلسطينيين في البلدان المضيفة، لبنان والأردن وسورية ومصر، وهذا أقل الأخطار وأوضحها.

لذلك، غريب أن يفاجئ الغضب الفلسطيني الأميركيين. ماذا كانوا يتوقعون؟ أن يشكرهم الفلسطينيون مثلاً! شكا ترامب ازدراءهم لإدارته، وواصل نزع «المكافآت» التي منحتها الإدارات السابقة للسلطة الفلسطينية في إطار عملية السلام، ليكشف أن كل لفتة أميركية تجاههم ليست سوى مادة ابتزاز مستقبلي. هكذا يجب أن يُفهم تجميد المساعدات المالية الأميركية، والتهديد بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وتجميد جزء كبير من المساعدات لـ «أونروا»، ومحاولات التضييق دولياً على السلطة. فهل يُدرك ترامب أنه، بيده، يُقوّض اتفاق أوسلو الذي يتضمن الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف؟ وهل هذا ما تريده الدولة العبرية؟ على كل حال، الرئيس محمود عباس أعلن أن «أوسلو» انتهى، فماذا بعد؟

لا بأس في أن يشعر ترامب بالإهانة، كما قال وليد جنبلاط. لكن الحقيقة أن «صفقة العصر» ليست رد فعل، بل هي خطة ومؤامرة، سقفها وفحواها إسرائيليان. لو لم تكن كذلك، لكان ترامب بادر، بالقوة نفسها التي أزاح فيها ملف القدس عن طاولة المفاوضات، وبالمنطق والحجج ذاتها، ومن دون أي اعتبار لرد فعل العالم، إلى إزاحة ملف المستوطنات، فلماذا لم يفعل؟

المعضلة لن تقف عند حدود فلسطين، فكما كانت مركزيةُ قضيتها، تاريخياً، وراءَ رسم خرائط المنطقة منذ مطلع القرن العشرين، فإن حلها بهذا العسف، وبتلك السطوة والعنجهية، وفي إطار الرؤية الإسرائيلية، سيمس المنطقة بمجملها، ولسان حال ترامب يقول: شاء من شاء...

كيف سيكون تأثير ذلك على الإقليم وعلى كل قُطرٍ على حدة وكل شعب، هو سبب التوجس، إضافة إلى الحذر من العقاب، والكل في حال انتظارٍ لما ستتفتق عنه مؤامرات الغرف الأميركية المظلمة. والموعد آذار المقبل.

في روما القديمة، كان منتصف آذار موعدَ تحصيل الامبراطورية الرومانية ديونها من الأفراد والأقاليم، فهل تعمّد ترامب اختيار هذا الشهر تحديداً من أجل تحصيل ديون يراها مستحقة؟ هذا التاريخ استنطقه الشاعر الإنكليزي العظيم في مسرحية «يوليوس قيصر» حين حذّره عرافٌ من أخطارٍ تهدد حياته في منتصف آذار، فكان فعلاً يومَ اغتياله الشهير، في المسرحية وفي الواقع، عبر مؤامرة شهدت خيانة صديقيه كاسيوس وبروتوس، التي قال القيصر فيها عبارته الشهيرة: «حتى أنت يا بروتوس»!

ها هي إذاً تراجيديا شكسبيرية بكامل أهليتها ولا شاعريتها تُهدد المنطقة، وليس فلسطين وحدها. أهو الشرق الأوسط الجديد يُفرض بالقوة؟

لن تكون «صفقة العصر»، بالوعي المُسبق لها، قدَراً لكي نقول «لا يُغني حذرٌ عن قدر».

حذارِ من منتصف آذار.