زهير الدبعي - النجاح الإخباري - كلما شعر أهلنا بالضيق ومزيد من الضغط والإرهاب، دعوا الله سبحانه وتعالى أن يرسل إليهم قائداً بطلاً وعظيماً كصلاح الدين الأيوبي. وهذا في بعض جوانبه هروب من الحاضر إلى الماضي، وتهرّب من الواجب بالرهان على البطل المخلص. كل الشعوب في ذاكرتها وتاريخها بطل مخلص تنتظره كلما اشتدت الخطوب وازداد الظالمون توحشا. قال الشاعر هارون هاشم رشيد في قصيدته التي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب والتي كتبها قبل (70) عاما : " أخي جاوز الظالمون المدى"، ولو كان شاعرنا حيا فماذا سيقول الآن؟ !!! .

بطولة صلاح الدين الأيوبي بطل فتح حطين والذي قاد الأمة لتحرير القدس في 2\10\1187، ليس لأنه عسكري موهوب فقط وإنما لأنه انتصر على جيش الغزاة الفرنج أخلاقيا وحضاريا، ومات في دمشق ولم يترك وراءه ثروة ولا دكانا ولا بستانا، وكل ما تركه من حطام الدنيا كان (37) دينارا.

لكن الدرس الأول من تحرير القدس لأن صلاح الدين مواطن كردي ولد في قلعة تكريت شمال بغداد ، ولم تكن الأمة قد أصيبت بفيروس الطائفية والمذهبية والانقسام. وكونه مواطناً كردياً لم يعطه حقاً اضافياً ولم يسلب منه حقاً ، وما ينسحب على الكردي ينسحب على التركماني والافغاني والامازيغي والزنجي والتركي والفارسي لأن الإسلام لم يلغ الاعراق ، ولم يلغ الانتماء الى القبيلة، وانما ألغى وحارب القبلية والتعصّب لأي كان.

وكذلك الإنجاز الأعظم لصلاح الدين في توحيد الامة، فقد كان سلطاناً لدولة تمتد من حدود تونس الى ليبيا ومصر وشمال السودان واليمن والحجاز وبلاد الشام وجنوب تركيا وشمال العراق. وكانت نسبة الفلسطينيين في معركة حطين وأمام أسوار القدس يوم تحريرها اقل من 5% لأن الأمة أدركت الأخطار التي تستهدفها بعد إحتلال الفرنج للرها وانطاكيا وطرابلس وصور والقدس والكرك وشمال مصر، ويترتب على هذا الوعي مسؤولية المقاومة، فكان مقاومون من المغرب بما في ذلك الأندلس الذي أقام لهم السلطان الأفضل وقفاً في القدس مجاوراً للمسجد الاقصى المبارك تقديراً لجهودهم وإخلاصهم. وهذا الوقف هو حارة المغاربة التي سارع المحتلون الى هدمها في الايام الاولى لإحتلالهم البلدة القديمة من القدس في 7/6/1967، وتهجير أهلها .

فتح حطين وتحرير القدس لم يكن نتيجة بطولة وتفاني صلاح الدين فحسب، وانما كان ثمرة لوحدة الأمة وتوظيف طاقتها البشرية والمعنوية والاقتصادية للدفاع عن وجودها بمقاومة الغزاة المحتلين الهمج الدمويين الذين قتلوا (70) ألف مسلم في ساحات المسجد الأقصى المبارك ومنذ ذلك اليوم عرفنا مصطلح " الدم للركب " الذي ورد في رسالة أرسلها فارس من الفرنج الى أمه في أوروبا يخبرها : «إن خيولنا خاضت في دماء الكفار -«أجدادنا»- في معبدهم المقدس "المسجد الاقصى المبارك" حتى الركب» .

مستقبل فلسطين والقدس وكذلك مستقبل العرب والمسلمين والمسيحيين وكل ضحايا العنف والاستعمار في هذا الكوكب منوط بوحدتهم ، ومنوط بتوظيف قوتهم ومواردهم وثرواتهم المادية والمعنوية لمقاومة الغزاة المحتلين والاستعمار والطغيان والفقر والجهل والمرض واللاعقلانية والقبلية والطائفية والظلامية والتخلف والفساد .

التعاطي مع القرار الامريكي وكأنه أول عدوان على أمتنا وعلى فلسطين وعلى القدس إنما يعكس جهلا أو سوء نية وفساد طوية، لأن الدور الامريكي في قضيتنا قديم منذ 1920 حيث صوت الكونغرس الأمريكي على تبني وعد بلفور، وهو قديم منذ ضغوطات أمريكا على الإنجليز لإدخال مئة ألف من المهاجرين اليهود الى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية وقديم منذ الدور الأمريكي العميق في إرهاب دول أعضاء في الأمم المتحدة كي تصوت لقرار تقسيم فلسطين الى دولتين. وقد وقف المندوب الامريكي في الأمم المتحدة مدافعاً ومروجاً لقرار التقسيم قائلاً :" ان الحدود بين الدولتين المقترحتين ستكون هادئة تماما كحدودنا مع كندا ".

وهو قديم منذ الضغوطات الأمريكية على الإنجليز ليضغطوا بدورهم على الدول العربية لقبول ما يعرف بالهدنة الأولى في 10/6/1948 مما أدى الى رفع الحصار الشديد عن الأحياء التي أحتلها الإسرائيليون من القدس. واستغل المحتلون الهدنة لإدخال كميات هائلة من الأسلحة والعسكريين خلافا لشروط الهدنة . أما الدول العربية فقد إلتزمت بشروط الهدنة مما أعطى العدو قوة إضافية إستغلها فور إنتهاء الهدنة بإحتلال مدينتي اللد والرملة وعشرات القرى الأخرى وتهجير أهلها في 11/7/1948.

وهو قديم منذ وعد الرئيس الأمريكي ليندون جونسون لإيبان وزير خارجية اسرائيل، في أيار 1967 بعدم الضغط على اسرائيل للإنسحاب من الاراضي التي ستحتلها آلتها العسكرية كما ضغط الرئيس آيزنهاور على إسرائيل للإنسحاب من سيناء وقطاع غزة في اذار 1957.

ولا أعتقد أن باحثا مهما اوتي من سعة المعرفة والاطلاع يمكنه حصر الدعم الامريكي العسكري والحربي والتكنولوجي والتجاري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي لإسرائيل .

لو كان الدعم الأمريكي لإسرائيل في حدود قرار الامم المتحدة (181) الذي أصدرته في 29/11/1947 لربما قلنا أن هذا الدعم مبرر من المنظور الغربي . ولو قلنا أن الدعم الأمريكي لإسرائيل حسب حدودها في العام 1949م ، بعد سلبها 550 ألف دونم في منطقة المثلث ، لربما قلنا هذا أمر معقول من وجهة نظر غربية. أما الدعم الأمريكي لإسرائيل في إحتلالها وفي إستيطانها الذي يلتهم أرضنا في عربدة اسرائيل وقصفها لدمشق وبغداد وعمان والقاهرة وإحتلالها عدة مدن وعشرات القرى في لبنان وحصارها واحتلالها لبيروت في العام 1982 فان هذا يتجاوز كل مادة في القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة، بل في قيم كل البشر من شرعة حمورابي الى الإعلان العالمي لحقوق الانسان الذي اصدرته الامم المتحدة في كانون الاول 1948.

أما قرار أمريكا نقل سفارتها من تل ابيب الى القدس فهذا يعني إستخفافاً مذلاً بكل ملك وأمير ورئيس عربي ، واستخفافاً أشد بكل من يعتبرون أمريكا صديقا لهم ، وكذلك هو استخفاف بكل إنسان راهن على أمريكا وديموقراطيتها ومزاعم حربها على الإرهاب .

وفي هذا أستذكر عربياً قبل الإسلام تعرض للإعتداء وسلب المعتدون إبله فقال : لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل إبن شيبانا.. اذن لقام بنصري معشر أنف عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا.. لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وان هانا.. يجزون عن ظلم أهل الظلم مغفرة وعن سوء أهل السوء إحسانا .

طالما أن ثروات العرب تنفق لنشر المذهبية والعنف في العراق وفي سوريا ، ولتغذية المحرقة في ليبيا، ولقتل أطفال اليمن الذين يعانون من الكوليرا و الجوع فإن من البديهي والطبيعي أن يجرؤ الرئيس الامريكي (غير المقنع) على قرار يكرس الإعتراف بإحتلال إسرائيل لما احتلته في حزيران عام 1967م، وتكريس تهويد القدس ،واغتيال زهرة المدائن، وهي مدينة عرفت لقرون طويلة بأنها مدينة التعددية والتنوع والعيش المشترك .

مشكلتنا أَننا لم نقم بهجوم معاكس على إعلان اسرائيل ضم البلدة القديمة ومداخلها في8/6/1967 .إسرائيل فبركت شعارا خبيثا وماكراً للإحتلال وهو شعار «توحيد القدس» بدعوى إزالتها للأسلاك الشائكة والألغام بين أحياء القدس . وهذا شعار بقدر ما هو مخادع ومناقض للحقيقة فإنه خطير لأن أي شخص في العالم يجد نفسه مع فكرة توحيد مدينة، ولا يجد نفسه مع (إعادة تقسيمها). كان الموقف العربي خجولاً ومتردداً وضعيفاً مطالبا بإنسحاب إسرائيل من القطاع الشرقي للقدس الذي احتلته في حزيران 1967. علما أن إسرائيل احتلت أكثر من 90% من القدس في العام 1948 وهجرت أهلها العرب بالعنف الدموي المفرط مع سبق الإصرار والترصد وبناء على سياسات وخطط وتعليمات لأهل كان من الأذكى والأقوى أن نطالب بشعار (القدس الواحدة) مقابل الشعار الاسرائيلي (القدس الموحدة)؟!..

وقال الدكتور وليد الخالدي في كتابه (القدس مفتاح السلام) منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية –بيروت رام الله –الطبعة الأولى حزيران 2017 – صفحة 12 :"لم تشكل الملكية اليهودية للأملاك في القدس ككل، عشية التقسيم في سنة 1947 أكثر من 25 في المئة. ونتيجة العمليات العسكرية الصهيونية المخطط لها بعناية ، إكتسب الصهيونيون 84.13% من حدود المدينة في حرب سنة 1948 . وضمت غنائم الحرب هذه جميع المراكز التجارية والأحياء السكنية العربية : الطالبية ، القطمون ، والوعريه، والبقعة الفوقا، والبقعة التحتا ،وغيرها . وتم طرد السكان العرب من هذه الاحياء بالارهاب والذبح، واستولت القوات الصهيونية على المنازل، والمتاجر، ودور السينما والمكاتب والمستشفيات - وكل المباني والمرافق التي تتشكل منها أي مدينه – وتمت مصادرتها ، وتعبئتها جميعا،وبسرعة فائقة، بمهاجرين يهود جدد .

ظل سكان هذه المناطق العرب منذئذ على الجانب الاردني، على مرأى من أملاكهم .وبالنسبة الى هؤلاء السكان، فإنه يبدو الآن بحسب ما يقول السيد ايبن،أنهم منحوا الإذن بـ "الاختلاط"مع القدس الاسرائيلية الغربية. فإذا ما أردنا ترجمة عبارة السيد ايبين الى الانكليزية لتبين لنا أن المعنى هو انه أذن لهؤلاء السكان بأن يشاهدوا أملاكهم السابقة، ومشاهد طفولتهم، وميراث آبائهم، وثمرة كدهم ومدخراتهم – مشاهدة ما ضاع الى غير رجعة، واحتله أشخاص أغراب ، لكن ، وعلى الرغم من ذلك كله،مشاهدته عن قرب. وبعبارة أخرى : يمكن للسكان العرب الآن أن يلمسوا منازلهم السابقة من الخارج، وحتى يمكن لهم ان يشموها ، وإن ارادوا ذلك.لهذا، يتوجب على العرب وعلينا جميعا هنا، ان ننفجر بالثناء والتزلف للشهامة الاسرائيلية ".

اننا لا نحتاج الى (يوم غضب) وإنما الى أيام من التفكير والحرص على الوعي والمعرفة والمعلومات. إننا بحاجة الى إخضاع ادائنا للمتابعة والرقابة والتحليل والدرس والتقييم. وهذا يعني مأسسة أدائنا، فإن حقوقنا وإستعدادنا للتضحية دفاعا عن وطننا ومقدساتنا ليس كافياً وانما يتوجب علينا بناء مؤسسة فلسطينية على أسس الإدارة الرشيدة لأن كل الأتقياء الصالحين والنشامى والشجعان لا يمكنهم مواجهة المؤسسات الصهيونية بأداء قبلي وبهوامش قبلية ضيقة .

وعلينا أيضا أن ندرك خطورة الثقة بالإستعمار فمنذ المرحوم الشريف حسين بن علي الذي غدره الإنجليز ومات منفياً حزيناُ مهموماً في جزيرة قبرص جراء غش الانكليز وخداعهم. وتقديرا من الفلسطينيين لإخلاصه وتعاطفهم مع أحزانه دفنوا جثمانه داخل المسجد الاقصى المبارك ولم نتعظ بتاريخنا. ورحم الله محمد الطالبي القائل : «من اعتنى بالتاريخ فقد ضم الى عمره اعماراً والى تجربته تجارب» .فقد راهن السادات على أمريكا وطالما كرر أقواله بأن بيدها 99% من أوراق الحل كي يعيش المصريون في رغد ورخاء السلام .

ولم يتعظ بعض العراقيين الذين فرحوا بالغزو والإحتلال الاميركي للعراق كي يخلصهم من الرئيس صدام حسين . ومعاناة الشعب العراقي من الاحتلال الأميركي وارتداداته كانت معروفة حتى هذا اليوم . ولم يتعظ مشتغلون بالسياسة في سوريا الذين ناشدوا(الناتو) وأميركا كي تخلصهم من النظام .وهذه هي نتائج التورط في العنف لأنها فرضت كما هائلاً من الأوجاع والأهوال على الشعب العربي السوري مما قدم خدمة إستراتيجية لإسرائيل ومما جعل القرار الاميركي ممكناً.

يقول معلم الناس الخير عليه الصلاة والسلام :"لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين " كم مرة لدغتنا أميركا وما زال من يدعون الثورية والمقاومة يسيل لعابهم كي تعترف بهم أميركا .

ورحم الله الحكيم القائل:(الذي يجرب المجرب عقله مخرب ). والحمد لله الذي انعم علينا بنعمة العقل وأمرنا باستخدامه ، ولن نجعله مخرباً. كلما أضافت اميركا الى سجل عدوانها على شعبنا وامتنا عدواناً جديداً فإننا نلجأ الى التصريحات والبيانات والمظاهرات والمهرجانات وهذه كلها صحيحه وجيدة إلا أنها ليست كافية وليست فعالة وكلما أضافت عدواناً جديداً نهتف (الموت لامريكا) ونحرق العلم الاميركي . وحقيقة وليس مواربة وليس تكتيكاً لسنا مع موت أميركا ولا موت غيرها، وانما نحن مع حقنا في القدس وفلسطين ووطن العرب وبلاد المسلمين وكل انسان في هذا الكوكب مع حقه في الكرامة والحرية والعدل والتنمية والسلام .

وإحراق العلم الاميركي لا يقدم لنا شيئاً ولا يرفع عنا ظلماً وإنما يؤخرنا الى الخلف لأن دوائر الموت في امريكا تعرف كيف تستغل إحراق العلم لتحشيد الناس هناك ضد حقوقنا ووطنا وقضيتنا. إننا يجب أن نعمل بوعي وقوة وفعالية ضد مصانع الأسلحة والذخائر، وضد كل من سمعتهم يذكرون الله فاعلم انهم يعنون الدولار لا غير .

اننا بقدر رفضنا للعدوانيين في أميركا، وفي كل مكان في العالم، فإننا مع الأمريكيين الطيبين الرافضين للعنصرية والكراهية والإحتلال، وبعض هؤلاء يقفون مع شعبنا في البلدة القديمة في الخليل وفي القدس وفي يانون قضاء نابلس الى جانب أطفالنا واهلنا من المزارعين ورعاة الاغنام.

علينا أن نحذر من العنف ( لأن العنف هو حفرة يحفرها الظالم ليقع فيها المظلوم ) .ولدينا القدرة والفعالية كي ندافع عن قدسنا وكل فلسطين وعن كل مظلوم وضحية للعنصرية والإحتلال في هذا الكوكب بمقاطعة المنتجات الأميركية. خلال أسابيع قليلة لو توقف المدخنون في فلسطين ووطن العرب وبلاد المسلمين، وكل من يعانون من الإستكبار في هذا الكوكب، لو توقفوا عن تدخين السجائر الأميركية والكوكا كولا وجميع السلع الأميركية بدون ضجيج، وبدون شتائم لتغيرت خارطة القوى امريكيا، الذين يتحكمون بقوت الناس ودوائهم وحليب أطفالهم هم مثل جهاز الكمبيوتر، لن يتحرك ولن يتجاوب إذا ناشدته باسم العدل وباسم الحرية او باسم سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام. لكن إذا غيّرت الأرقام بدون عنف فإنه يتحرك ولن يكون مطلبنا إعادة السفارة الأميركية الى تل ابيب وانما حق شعبنا كبشر وحقوقنا الوطنية السياسية على ارض وطننا الذي زرع اجدادنا وجداتنا سهوله وجباله بشجرة الزيتون المباركة قبل مئات السنين من مولد سيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام، الذي نعيش في هذه الأيام ظلال مولده المبارك .