حنان باكير - النجاح الإخباري - قرأت ذات مرة، أن المتصوفين العرب كانوا يعتقدون أن القدس تقع في نقطة هي الأقرب الى الجنة والى الجحيم.. على تلالها تستطيع أن تستمع الى تسابيح الجنة وتشمّ رائحتها. وفي وديانها تستمع الى صراخ الجحيم وتشم رائحته. ولذلك كان المتصوفون يرفضون الإقامة فيها، وينصحون الناس بمغادرتها، لأنها مدينة البكاء.

وحين كُتب لك أن تزور القدس، تدخلها متوجسا، حذرا، ورهبة تتملك كيانك. تنسرب الحكايا من ذاكرتك. لا تعير انتباها، لأصوات المعابد وبخورها، ولا تنتابك رغبة بالصلاة، كل ما ترجوه، أن تلملم من الفضاء أنفاس الذين رحلوا، فتستعيد أصواتهم وهم يقصّون عليك حكايا رحيلهم الأخير عن مدينتهم. وتتابع أحداث معركة القسطل، وعبد القادر الحسيني، الذي عاد من دمشق غاضبا، بعد أن رفض قائد جيش الإنقاذ، فوزي القاوقجي، تسليمه السلاح الذي جُمع للثوار الفلسطينيين، وعاد للمقاومة بما ملكت أيديهم من سلاح أكثر من متواضع، واستشهد عبد القادر ورفاقه، وسقطت القسطل، بعد أن أوشكت الهزيمة أن تلحق بالعصابات الصهيونية.

ويدفعك الفضول في صباح باكر للخروج الى سوق الخضار والفاكهة. وستجد بضعة نسوة، بأثوابهن الفلسطينية، يفترشن الأرض، ويُضممن الزعتر والمريمية والخبيزة، في باقات صغيرة. وامرأة تبيع الصبر، بصبر الأنبياء.. تهيء آلة التصوير لالتقاط صورة لهن. تغضب إحداهن، وهي التي تنبهت لوجودك، وبلغة الإشارة، تخبرك بأن الله سوف ينتقم منك، ظنا منها، أنك سائح، أو.. تقتربُ منها وتسألها بلهجتك الفلسطينية، التي قد تكون شفيعتك: لماذا يا أختي؟ باشمئزاز، تشيح بوجهها عنك. وبإشارة من يدها، تقول لك: غور عن وجهي. وتوشك أنت على البكاء. ترجوها أن تصدق انتماءك الفلسطيني، فتقول لك: ما إنتو بتتعلموا العربي أحسن منا! تحاورها بكلمات مقتضبة، فأنت في حضرة من لا تطيق النظر في وجهك. تمدّ لها يدك طالبا مصافحتها والدمعة في عينك، ونسمة فرح تداعب قلبك، لأن هذا الاحتقار، ليس موجها لك، بل لمن خالته، مختلف الانتماء.

وفي لحظة تقابل النظرات، ومدّ اليد للمصافحة، تتأمل قسمات وجه كأنه، قُدّ من صخر جبل الزيتون، ويد خشنها مداعبة، ما تبقى لها من تراب أرضها، وحفر فيها أثلاما وشقوقا، كتلك الشقوق في أرضها العطشى، فتخطف قبلة سريعة من اليد المقدسية، التي امتدت لك بلا مبالاة للمصافحة، وتسرع خائفا من رهبة وقسوة الموقف. تتمتم صلاتك، أبانا الذي في السموات، اغفر لنا نعومة ايدينا التي لم يُخشّنها حب الارض. أبانا الذي في السماوات، اغفر لنا خطيئة رحيلنا.. مباركة أنفاسكم التي تعطر أجواء قدسنا، مباركة عيونكم القابضة على الأفق والمدى الممتد بين الأرض والسماء..

الرابعة فجرا.. وفي مقهى الفندق تحت العريشة.. وبشكل استثنائي، تأتيك النادلة التي اعتادت لأيام، حضورك المبكر جدا، على غير عادة النزلاء.. تأتيك بركوة القهوة المقدسية، وكوب الليموناضة بالنعناع. الحياة لم تبدأ ضجيجها اليومي. فقط عصافير مقدسية، تتقافز أمامك على الطاولات، التي ما زالت خالية، من زوار الصباح.. ترتشف قهوتك، وتتأمل باب العامود، والمآذن والقباب التي ما ملّت من معانقة السماء. تأتيك سيدة جميلة، بملابسها التاريخية القديمة المعتقة بروائح البخور، تشاركك طاولتك. تجلس صامتة حزينة. تحكي لها حكايا من التراث الغربي، لتقول لها، أن الحياة ليست تراتيل وبخور وقرابين فقط، فاخلعي عنك ملابسك هذه وتعالي نكتشف معا أشياء جديدة، ربما لم تسمعي بها، تدمع الجميلة وتغادرك عائدة، وتختفي من باب العامود، وتنتصب قبابا ومآذن.. بدت لك، وكأنها مستسلمة لقدرها، راهبة، ورهينة للتراتيل والبخور..

تعتادك الجميلة بملابسها التاريخية وعبق بخورها، وصارت تسبقك في الحضور الى الطاولة ذاتها. ترافقها في نزهة، في الشواع العتيقة.. وتقع في هواها.. ولأول مرة في حياتك تعرف طعم ذلك العشق المحرم، الذي يبكي قلبك ويدمي عينيك.. فتبكي دما مالحا.. حكاية عشق، محكومة بالفراق.

تغادر مدينتك.. تنظر من النافذة الخلفية للسيارة وهي تبتعد.. تلوح لك القباب والمآذن والصلبان منتصبة.. وتتلاشى شيئا فشيئا.. يجتاحك شعور بالقبض عليها واحتضانها.. وتودّ أن تصرخ في وجه مدينتك.. لكن صرختك تتيبس في حلقك الجاف، ويخونك لسانك.. وذاكرتك توجعك.. فقد أضافت المدينة، تفصيلا جديدا، في ذاكرة، تملأ الفراغ بين الأرض والسماء!