منال الزعبي - النجاح الإخباري -  

عادت إليه ملامح الطفل الموجوع وهو يروي قصة الحدث الذي بسببه أصبح يتأتئ في الكلام وهو الطفل النابغة طليق اللسان.
وجع الطفولة لا ينسى بل ينقش على صخور العمر، التي يستفزها هطول الذكريات فينحت فيها الألم ويعمّقه، ولأنّ الأم مساحة مقدسة، مساحة الأمان والحنان والعطاء فإنَّها كالجاذبية إذا فقدناها فقدنا التوازن في هذه الحياة المليئة بالمطبات.
" كنت في العاشرة من عمري، وكانت أمي في ريعان شبابها تحضنني مع إخوتي الأربعة"، قالها والشوق لذلك الحضن يغرق عينيه بالدموع.
"ع،م" والذي أصبح اليوم شاعرًا يفيض الشعور من قلبه على لسانه، يروي: "فرحتُ حين دخل المدير إلى الصف،أمسك بيدي واقتادني إلى الإدارة، ظنَّنت أنّه سيكرمني على تفوقي، لكن  فاجئني وجود خالتي في الغرفة والدمعة في عينها، وبعد قليل دخل أخي الأصغر، وقال المدير بصوته العميق: "أنا بوصلكم"، لوين رح يوصلنا المدير؟ .. زادت فرحتي وقد خرجنا من المدرسة في سيارة المدير، قلت في نفسي ربما هي نزهة، والتقت عيناي بعيني أخي ذات الفرح الطفولي الجاهل وابتسامة تغمرنا معًا، وصلنا إلى المستشفى، كنت أعلم أنَّ أمي مريضة لكن أمي "صبية والصبايا لا تموت" هكذا صوّر لي عقلي، حضنتنا بصمت دون كلام، تلك اللمسة التي يقشعر بدني كلما لاحت في ذهني، مجرد دقائق وخرجنا وسط جو من الحزن والكثير من الدموع، خالتي تبكي وزوجة عمي تبكي حتى عيون المدير تدمع، لم أبكِ حينها فأمي ستعود غدًا أو بعد غدٍ إلى البيت، في طريق العودة قالت لي زوجة عمي: "إنت الكبير بأخوتك بدك تكون قوي وتقويهم، إمك إذا ما ماتت اليوم رح تموت بكرة!"، كلامها صفعني بشدة على قلبي حتى شعرته يبكي، دخلنا البيت بصمت تجولت في أركانه كأني أبحث عن أمي، هي في كل زاوية، دخلت غرفتها، تحسَّست ملابسها التي تعبق برائحتها، ثم جلست على درج المنزل يغمرني الحزن وكلام زوجة عمي يتردد في سمعي، عبثًا حاولت البكاء ..مجرد حزن قاتل وخواء.
كانت ليلة أطول من ساعاتها، ثمَّ الصباح والمدرسة، في الحصة الثالثة، سمعت نعي أمي في سماعة الجامع، اسمها زلزلني هزَّ كياني ثمّ انهار صمتي.. تلعثم لساني، ماتت أمي،  أكل السرطان جسدها الحبيب يا رب السرطان يصيبه سرطان ويموت!!، دُفنت أمي ودُفن معها كل الفرح.. مات الحنان والأمان والنهار.. وحده الليل والحرمان ظلَّ ومعه رجفة الاحتياج.


صمت قاتل ثمَّ قال"ع،م" كلمته الأخيرة: " لازلت أبحث عن أمي في كل النساء، ولم أجدها، لكني يوميًّا أذهب اليها، أحادثها وأستشيرها وأحضن قبرها دون أن أشعر بصلابته وبرودته".