عبدالمنعم سعيد - النجاح الإخباري - لا أدري عما إذا كان الظرف الدولي الذي تشكله الأزمة العالمية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، أو الظرف الإقليمي الذي تكَوَن بعد سقوط الموصل وحصار الرقة ووقف إطلاق النار والتهدئة على كافة الجبهات السورية، سوف يصرف الأنظار عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية الذي تبدى في مطلع رئاسة دونالد ترامب.

كان الحديث عن «صفقة القرن» وأن «الصراع العربي الإسرائيلي ليس بالصعوبة التي يتصورها البعض»، على حد تعبيرات الرئيس الأمريكي، موحية بأن حماسا جديدا دب في عملية السلام سواء لأن ذلك كان دوما جزءا من منطق الاهتمام بالمنطقة، أو لأن شبكة من التسويات سوف تجري بعد ما يبدو من هزيمة «دولة الخلافة». فكما يقال دائما إن الصراعات الكبرى عادة ما يعقبها تسويات كبرى، وصحيح أن الصراع الكبير لم ينته بعد، ولكن النجوم الطالعة الآن تقول إن «داعش» خسرت معركة كبرى إن لم تكن قد خسرت الحرب، وعلى أية حال فإن الحروب ما هي إلا مسلسل من معارك كبيرة.

الشاهد على الأحداث فيما يتعلق بمنطقتنا يقول إن هناك عملية اتصالات واسعة تجري بصدد الدخول في عملية أخرى للتسوية، ربما لأن العادة جرت على أن كل رئيس أمريكي لا بد له من محاولة. وفي العادة أيضا أن المحاولة تبدأ بالاتصالات العليا بين القادة، ثم تبدأ سلسلة من المباحثات السرية، وعلى جانب المباحثات تجري محادثات سرية أخرى بين الخبراء ولأن كل الأمور تكون عادة ثالثا معقدة فإنه تجري ما يسمى «مباحثات المسار الثاني» الذي يحضره خبراء لا تعتبر تصوراتهم ملزمة وإنما استكشافية.

شيء من هذا يجري الآن، ولكي تكون فيه مصداقية فإن مبعوثا خاصا للرئيس الأمريكي يظهر في المنطقة بطريقة متواترة، وفوق ذلك فإن زوج بنت الرئيس جاريد كوشنر يقود العملية كلها. الخلاصة حتى الآن لا تبشر بحدوث اختراق، بل إن الزوار الجدد للموضوع لا يبدو أن لديهم الخبرة الكافية بما سبق، وظهر ذلك من معرض حديث تسرب من البيت الأبيض بعد محاضرة ألقاها كوشنر على مجموعة من المتدربين. ويبدو أو واحدا من المتدربين بدأ مستقبله في البيت الأبيض بالتعرف على الكيفية التي يتم بها «تسريب» أخبار محادثات حساسة!.

كل ما سبق ليس فيه جديد، والذين عاشوا حياتهم على متابعة الصراع العربي ـ الإسرائيلي فإنهم سوف يرون في التطورات نوعا من نفس النبيذ الذي يوضع في زجاجات جديدة. ولكن الجديد جاء في مقال نشر في «النيويوركر» بعنوان «نهاية الطريق: تدهور الحركة الوطنية الفلسطينية» بتاريخ 6 آب الحالي، ومؤلفاه هما حسين أغا وأحمد الخالدي، وكلاهما من الأكاديميين الجادين في منابر بريطانية عديدة، كما أنهما عملا مستشارين لوفود التفاوض الفلسطينية التي بدأت من مدريد وربما حتى الآن، وهما وجوه دائمة في المسارات الثانية للمفاوضات. المقال كما يظهر من عنوانه يشكل نوعا من النظر في المرآة الفلسطينية للبحث عن تفسير الفشل الفلسطيني في تحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينية، وهو بينما يفعل ذلك لا يبحث عن مشجب أو عذر خارجي يضع عليه اللوم سواء، كان التعنت الإسرائيلي، أو الانحياز الأمريكي، أو انشغال المجتمع الدولي بأمور أخرى. كل ذلك هو من «طبيعة الأشياء»، ولكن المتغير الأساسي في حركات التحرر الوطني هو فاعليتها ومدى قدراتها على تعبئة مواردها المحلية واستخدامها الحكيم في تحقيق التحرر والاستقلال.

بالطبع فإن من يريد معرفة كامل الحجج للمؤلفين فإن عليه أن يعود إلى أصل المقال، ولكن الجوهر هو أن الحركة الوطنية الفلسطينية فقدت زخمها وقوة اندفاعها، سواء كان ذلك على مستوى حركة «فتح» أو السلطة الوطنية الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، وحتى عندما حاولت «حماس» أن تكون بديلا لكل ذلك فإنها في حكمها لغزة لم تشكل حقيقة سياسية مختلفة أو متميزة عما جرى في رام الله. في الحالتين، في الضفة والقطاع، كان الإطار الاجتماعي ذو الطبيعة العائلية والمناطقية هو الذي يفرض نفسه، ويخلق إدارة متضخمة وفاسدة وفاشلة، سواء كانت في حالة مواجهة مع إسرائيل أو حتى في حالة التعاون معها. الزمن في حد ذاته لم يكن صديقا للحركة الوطنية الفلسطينية، فهو الذي أفقدها جيل المؤسسين الأوائل حتى لم يبق منهم فعليا إلا الرئيس محمود عباس (أبو مازن) الذي يبدو أنه الباقي الذى يستطيع أن يوقع اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولكنه في ذات الوقت لا يستطيع فعلها لأن شرعيته قامت على استراتيجية للسلام لم تأت بثمار.

الزمن كذلك مرت فيه الكثير من المياه تحت جسور حركات التحرر الوطني التي كانت منظمة التحرير واحدة من الشاهدين عليها، والآن لم يعد للمنظمة إلا إيماءات طيبة عن الزمن القديم، ولكن الهند والصين، وغيرهما وجدا في إسرائيل صديقا نافعا. الزمن أخيرا وفيه جرى ما جرى في العالم العربي منذ الغزو العراقي للكويت الذي أفرز فى البداية مؤتمر مدريد وفي أعقاب اتفاقيات أوسلو، إلا أنه بعد الانتفاضة الثانية، وأحداث «الربيع العربي» وما جرى بعده بين العرب شيعا وقبائل ومذاهب وإرهابا، جعل القضية وشخوصها تنسحب بعيدا عن مكانتها المركزية.

التراجع في النهاية لا يخل من ضوء يأتي أحيانا من مناطق غير متوقعة، فما فقدته الحركة الوطنية الفلسطينية في العالم الثالث، كسبت بعضا منه في الغرب الذي أصبحت أجيال جديدة منه ترى ما لم تره الأجيال السابقة. ولكن ربما كان المكسب الكبير هو ما أتى من الفلسطينيين الإسرائيليين الذين باتوا يشكلون جزءا مؤثرا في الحركة الوطنية الفلسطينية بعد التفاعل الكثيف الذي جرى منذ عام 1967.

هل يلمح المؤلفان إلى أن حل الدولتين لم يعد متاحا، وأنه آن الأوان للنظر في حل الدولة الواحدة؟ لا يوجد في المقال ما يشير إلى ذلك صراحة، ولكن المنطق يقود إليه!.