هاني حبيب - النجاح الإخباري - هناك ظاهرة لفتت انتباهي منذ فترة ليست بالقصيرة أثناء متابعتي للشأن الإسرائيلي، وتتلخص بأن قادة الأجهزة الأمنية لدى الدولة العبرية وبعد تركهم للخدمة، من خلال التقاعد أو الاستقالة أو الإقالة، يتخذون مواقف أكثر "اعتدالاً" من المستوى السياسي، لاحظت عَبر العديد من المواقف أن هؤلاء في الغالب، يشكلون كابحاً أمام انجرار المستوى السياسي إلى "حافة الهاوية" في العلاقة الصدامية مع الجانب الفلسطيني على اختلاف أشكال حراكه ومواقفه، عبّر هؤلاء أثناء الحروب التي خاضتها الدولة العبرية ضد قطاع غزة وبعدها وفي الغالب قبلها، عن مواقف تدعو إلى التريّث وعدم الانجرار إلى انزلاقات خطيرة، يتجمع هؤلاء لإصدار مواقف وإعلانات وتحذيرات وبيانات تحذر من النتائج الخطيرة المحتملة لتدهور المستوى السياسي، هؤلاء هم قادة سابقون لأجهزة الأمن المختلفة والذين لا يستطيع أحد من قادة المستوى السياسي التشكيك بإخلاصهم للدولة العبرية، باعتبار أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على اختلاف مسمّياتها وتشكيلاتها كانت خط "الدفاع" والحرب الأساسي في المواجهة مع الجانب الفلسطيني والحراك الشعبي والعمل المقاوم، وهي التي وفّرت كل ما من شأنه تحقيق إنجازات بالغة الأهمية في إطار هذا الصراع.
وفي العديد من المواقف، اتخذ المستوى السياسي الإسرائيلي موقفاً "متشكّكاً" أو متهماً لهؤلاء كونهم ـ على الأقل ـ باتوا خارج الخدمة وليسوا على اطلاع على المعلومات والمعطيات المتوفرة لدى القيادة السياسية، وأكثر من ذلك، تم اتهامهم بالعمل على تصدُّع الجبهة الداخلية وأن دعواتهم الحذرة من شأنها أن ترفع معنويات الخصم والعدو وتربك أصحاب اتخاذ القرار، وفي بعض الأحيان، وجهت لهم تهمة "اليسارية" بالضبط كما توجه هذه "التهمة" أحياناً لبعض وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تنتقد الطريقة التي تتخذ بها القرارات من قبل المستوى السياسي!
ليس هناك أدنى شك، بأن هؤلاء أكثر حرصاً على ديمومة الدولة العبرية واستقرارها، وأحياناً استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعواتهم إنما تدل على هذا الحرص النابع من قراءة أكثر عقلانية، تبدو "معتدلة" مقارنة بمجازفات المستوى السياسي، هؤلاء عادة أكثر انصياعاً للقرارات والمواقف السياسية وهم في الخدمة، انسجاماً مع المبدأ السائد والمعروف، بأن المستوى السياسي هو صاحب القرار النهائي وأن الأجهزة الأمنية، وكافة أجهزة الدولة، تعمل لحساب رؤية وقرارات هذا المستوى، إلاّ أن هؤلاء، قادة الأجهزة الأمنية المتقاعدين، يصبحون في حل من هذا الالتزام أولاً، ويصبحون أكثر قدرة على قراءة الواقع بعيداً عن تأثيرات المنصب والرؤية الضيقة للأحداث وتداعياتها.
أثناء معركة أزمة الأقصى الأخيرة، أضيفت أبعاد جديدة إلى ملاحظتنا هذه، ولعلّ إحدى أهمّ الملاحظات في هذا السياق، تتجلّى في الانقسام المعلن تقريباً بين المستويين، الأمني والسياسي، حول سبل الخروج من الأزمة إسرائيلياً، داخل أروقة الاجتماعات والنقاشات المحتدمة بينهما، بعض قادة أجهزة الأمن سارع إلى الدعوة لإزالة البوابات الالكترونية منذ بداية الأزمة وطالب بعدم الانزلاق إلى مواقف تؤدي إلى فقدان السيطرة على الوضع في الأقصى وجواره، هذا الموقف شكّل في نهاية الأمر خشبة الخلاص لنتنياهو عندما أسند تراجعه إلى توصيات قادة أجهزة الأمن(!).
إلاّ أن الحالة الأكثر بروزاً وتحديداً، كانت عندما تقدم جهاز المخابرات الإسرائيلية "الشاباك" بأربعة سيناريوهات "مرعبة" أمام المجلس الوزاري المصغر، ستقود إحداها أو مجتمعة إلى انفجار الأوضاع في المنطقة برمّتها في حال الإبقاء على البوابات الالكترونية والكاميرات المنصوبة على مداخل المسجد الأقصى، ورغم أن المستوى السياسي اضطر إلى التخلِّي عن سياسته إزاء البوابات والكاميرات في نهاية الأمر، إلاّ أن رئيس الائتلاف الحكومي والقطب في حزب الليكود دافيد بيتان اتهم قادة "الشاباك" بنشر الذعر وتخويف المستوى السياسي، ما يدل على "الجبن" في حين كانت الوزيرة ميري ريغف قد سبقت إيتان في هذا الاتهام عندما وصفت توصيات "الشاباك" "بالهذيان"!
المفارقة هنا، أن مواقف قادة الأجهزة الأمنية، لم تكن بعد أن يتركوا الخدمة، بل أثناءها، وأن الافتراق ـ نسبياً ـ بين المستويين السياسي والأمني، أحد أهم إنجازات الحراك الشعبي الفلسطيني على خلفية أزمة الأقصى، وردود بعض الساسة في الحكومة المعارضة على هذه الاتهامات، تعكس مدى عمق هذا الانقسام!