عيسى الشعيبي - النجاح الإخباري - كان حال المقدسيين في انتفاضتهم المجيدة، اقرب ما يكون الى حال الأسرى المضربين عن الطعام في احد المعتقلات الاسرائيلية، المجردين الا من سلاح الصبر والارادة، مع تعديل طفيف يتناسب مع الوضع القائم في سجن واسع يضم عشرات الألوف من النساء والرجال والاطفال، ممن اعلنوا عن تمردهم الجماعي ضد الاحتلال، بالصلاة على ارصفة الشوارع في المدينة المقدسة هذه المرة، رفضاً لمحاولة الاستيلاء على المسجد الاقصى، الذي يمثل خط الدفاع الأخير عن عروبة القدس، وعن هويتها الحضارية الاسلامية المسيحية الخالدة.
وكان المشهد الذي تواصل لمدة اسبوعين فارقين في حياة المقدسيين خاصة، والشعب الفلسطيني عامة، محمولاً على عدة روافع متفاوتة الاهمية، في مقدمتها الاولى، دون ادنى ريب، الصمود الاسطوري في وجه آلة قمع مدججة، وذلك الاسناد الشعبي منقطع النظير من جانب شعب تمرس في مقاومة الاحتلال، وعرف كيف يصنع في كل مرحلة نضالية، ادوات كفاحه الملائمة لظروفه الذاتية والموضوعية، من البندقية الى الحجر الى الصلاة، التي كانت شكلاً كفاحياً ابداعياً لا سابق له في تاريخ حركات التحرر.
لقد اعادت انتفاضة القدس الأخيرة الى الأذهان صورة باذخة من صور انتفاضة الحجارة قبل نحو ثلاثين سنة، تلك الملحمة الشعبية الحافلة بالدروس والعبر الثمينة، حيث دارت وقائعها المشهدية خارج مربع القوة العسكرية المجردة، وبوعي مسبق من جانب القيادة الموحدة للانتفاضة، التي تجنبت بإصرار شديد  اللعب في الميدان الذي تفضله اسرائيل كقوة عسكرية متفوقة، وهو ما جرت على هديه انتفاضة الاقصى، التي تجنبت بدورها الانجرار الى هذا الملعب، وحققت بفضله مثل هذه النتيجة الباهرة.
ويبدو ان ما استلهمه المقدسيون من دروس تاريخية عظيمة، كان اشمل نطاقاً مما فاضت به الانتفاضة الاولى من نتائج ايجابية لا حصر لها، ومما حفلت به الانتفاضة الثانية المسلحة من تداعيات كارثية  ما تزال آثارها التدميرية ماثلة الى اليوم، ناهيك عما استخلصه هؤلاء المرابطون في بيت المقدس واكناف بيت المقدس، من عظات كبيرة خلال اضراب المعتقلين عن الطعام طوال اربعين يوماً سبقت حلول شهر رمضان الفائت، حيث ادى اضفاء الطابع السياسي على اضراب مطلبي بالكامل، وتحكم الحسابات الفصائلية الصغيرة (حماس أبت مشاركة معتقليها) الى تخريب الاضراب وافشاله مع الاسف الشديد.
على هذه الخلفية المسكونة بالحذر والتحوط وضبط النفس، فضلاً عن الحكمة والرصانة وقوة الارادة، تمسك المقدسيون، وهم في حكم الاسرى، بمقاومتهم السلمية، وظلوا قابضين على جمر الموقف طوال الوقت، وعلى زمام المبادرة ايضاً، حيث كانوا يدركون ان اول زخة رصاص في باب الاسباط مثلاً، من شأنها ان تقوض الوضع كله، وان تعطي قوات الاحتلال الذريعة المشتهاة بالكر والفر، لإعادة تظهير الموقف المقاوم بالصلاة، وبالصلاة وحدها، على انه عمل من اعمال الارهاب، الامر الذي فوت على اسرائيل الفرصة، واوقع بيدها الآثمة شر وقعة.
بالمحصلة غير النهائية، نحن اليوم امام انتصار حقيقي، بل ونادر الحدوث في مجرى الصراع التاريخي المديد، فيه ما فيه من ارباح معنوية ورمزية وسياسية تتجاوز محيط المسجد الاقصى، على اهمية الاقصى الاستثنائية، يمكن الاستثمار فيها والبناء عليها، وتحقيق فارق تاريخي، الا انها تقل عن درجة التحول المرغوب به في سياق الكفاح ضد الاحتلال، الذي خاض معركة خاسرة سلفاً بكل المقاييس، وجلب على رأسه  هزيمة محققة في رابعة نهار طويل، ليس لأنه فقد الرغبة في القتل والانتقام، او ضعفت لديه العدة والعتاد، بل لأنه لعب في غير ملعبه التقليدي.
وأحسب ان هذه الحصيلة الاولية الباعثة على الحس بالجدارة والاستحقاق، تنطوي على اجابة شافية على السؤال الذي لم يبرح اذهان الكثيرين، ونعني به سؤال؛ متى تحدث الانتفاضة الثالثة، تلك التي لا يمكن اعادة انتاجها بذات الادوات والوسائل السابقة، التي كانت تناسب زمناً فلسطينياً مضى بالفعل، ولا بتلك المشاهد التي أتت بنتاً لظروفها السابقة على حالة الانقسام الذي لا شفاء منه، الامر الذي كان يتطلب ابداعاً نضالياً جديداً، وتفعيل مظاهره الكفاحية في رقعة تحت السيطرة والتحكم، تماماً على نحو ما جرى داخل الاقصى وفي محيطه المطل على مديات أشمل حتى من كل فلسطين.