باسم برهوم - النجاح الإخباري - بين غازي السعدي وأسوار عكا علاقة خاصة كلاهما صلب وعنيد لا يعرف الانكسار، متجذر في المكان، إن كانت الأسوار قوية وصلبة بحجارتها، فإن غازي قوي وصلب بإرادته وعقله وفكره. 

السعدي الذي ولد في عكا عام 1937، وشهد نكبة عام 1948 طفلاً، أدرك مُبكراَ أن الفصل الأصعب في الصراع مع الصهيونية، واسرائيل الصهيونية، هو فصل العقل والمعرفة. ازداد قناعة بأهمية هذا الفصل بعد إبعاده الى الأردن في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما اكتشف أن العرب يحاربون اسرائيل من دون أن يعرفوها جيداً، ومن لا يعرف عدوه لا يمكنه هزيمته. 

لذلك تحرك السعدي سريعاً لتأسيس دار الجليل للنشر في العاصمة الأردنية عمان عام 1978، ليفعل هو والدار فعله فن الوعي الوطني و القومي، فألف الكتب و ترجم غيرها عن العبرية الى العربية، فكانت حصيلته أكثر من 200 عنوان جميعها مختصة بالشأن الاسرائيلي، سياسة، اقتصاد، مجتمع، فكر، مؤسسة عسكرية وأمنية.. 

السعدي هو من برع في الدمج بين المفكر والمناضل الوطني الصلب، عندما بدأ نضاله من عكا والجليل وحيفا والناصرة مبكراً ضد من أحال وطنه وشعبه الى ركام، ضد العنصرية الصهيونية، وكان من المحتم ان تعتقله السلطات الاسرائيلية عام 1969 وحكمت عليه بالسجن 12 عاما، امضى معظمها في المعتقل ومن ثم ابعدته الى الأردن، ولأنه يمتلك عقلاً متحفزاً واعياً، فهو لم يعرف السكون فكان يتحرك بكل اتجاه مفكراً وخبيراً ومستشاراً ومحاوراً ذكياً من الطراز الرفيع، لم يكن هدفه الحوار لمجرد الحوار، بل لينقل المعرفة ويتبادلها، لينقل ما يعرفه عن هذا العدو، الذي اغتصب وطنه على حين غرة من الجهل.. الجهل الذي راكمته الأمة العربية مئات السنين من الانحطاط زمن هيمنة العثمانيين. 

بعد ابعاده، انخرط غازي السعدي المُفكر والمناضل بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وكان أحد أبرز اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، ونشط في اللجنة السياسية، ليصيغ هو ورفاقه يصيغون المواقف والرؤى والاستراتيجيات، وخلال ذلك أظهر السعدي بما يملكه من معرفة، قدرة استثنائية على استشراق المستقبل، وقدرة على المشي بين الخطوط الرفيعة الفاصلة بين الوطنية والتبعية، فبقي فلسطينياً حتى النخاع.

أبعد الى عمان لكن قلبه بقي يخفق، في عكا والجليل يخفق في فلسطين، هو من أثبت أن البعد عن المكان لا يعني الانفصال عنه، بل على العكس من ذلك يزيد ارتباطاً به وبقيت عينه على اسوار عكا يستمد منها صلابته الوطنية، وبالرغم من ذلك لم يكن ناكراً للجميل بل رأى بوعي العلاقة الخاصة بين الشعبين الشقيقين الفلسطيني والأردني ومارس هذا الوعي عملاً وفكراً.

رحل عنا غازي السعدي يوم السبت الموافق السابع عشر من حزيران/ يونيو 2017، لكنه لن يرحل، لأنه ترك لنا تراثاً فكرياً معرفياً، ترك لنا نموذجاً وطنياً فلسطينياً وعربياً تقتدي به الأجيال، جيلاً بعد جيل.