أكرم عطا الله - النجاح الإخباري - أكرم عطاالله

لو كانت المذبحة بين أبناء الدين الواحد أو المذهب الواحد كما يحدث في سورية لكان الأمر عبارة عن صراع على السلطة، أو على أحقية تمثيل الدين انسجاما مع تراثنا الطويل من الصراع الذي بدأ منذ أن غادر الخلفاء الراشدون دنيانا واستمر حتى اليوم بلا توقف، لكن أن يتم استهداف أبناء دين آخر فإن في ذلك ما هو أخطر بكثير في دولة مثل مصر شاء قدرها أن تتجاور ديانتان على أرض ووطن واحد.

لذا فإن الأمر هو تهديد حقيقي لمجتمع ودولة مثلت نموذجا فريدا للتعايش قدم نفسه كدولة مواطنة تمكنت من هندسة نفسها بعوامل التاريخ والجغرافيا والسياسة منذ ثورة 1919 وتشكيل حزب الوفد الذي ضم لأول مرة قائدا مسيحيا فريدا مثل مكرم عبيد، ليبدأ الانتقال السياسي في مصر من الإرث الثقافي للخلافة العثمانية بالتعامل مع أقباط مصر كأهل ذمة نحو المشاركة في قيادة الدولة المصرية والمجتمع المصري.

قبل شهرين تم استهداف كنيستين للأقباط في مصر، وأول من أمس أفاق الشعب المصري على واحدة من أشد الضربات قسوة ما يعني أن الأمر ليس مجرد مصادفات أو عمليات عشوائية ينفذها متشددون ضد الدولة المصرية بقدر ما أن الأمر منظم يستهدف الدولة المصرية ورأسها بشكل مباشر، وهذا ما يدركه الرئيس المصري الذي ورث ملف التعايش وفقا لتقاليد أرساها الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر الذي أحال أهم ملفين في الدولة المصرية "النيل" و"تجاور الديانتين" إلى الرئاسة ولم يتركهما لأجهزة الدولة.

هذان الملفان هما الأهم والأخطر بالنسبة للأمن القومي المصري وربما تناقش الدولة المصرية بمرونة أية قضية، لكن النيل والدين يمثلان خطين أحمرين تتحرك الطائرات الحربية والجيش بسببهما حتى قبل أن يبدأ النقاش، وهذا ما فعلته الدولة المصرية بالأمس حين قامت بضرب مواقع للمتشددين خارج حدود الدولة المصرية ولمعرفة الرئيس المصري حجم ما تمثله المذبحة من تهديد على الدولة.

لماذا يتم استهداف المسيحيين في الدول العربية؟ هؤلاء الذين يشكلون جزءا أصيلا من المجتمعات العربية والحضارة العربية والقضايا العربية ومقاومتهم لاستعمار المنطقة إلى الدرجة التي جعلت واحدا من أشهر المستعمرين وهو "اللورد كرومر" ينتقد الأقباط في مصر لعدم مجاراتهم الاحتلال البريطاني "والامبراطورية المسيحية مثلهم" فيما كان يرد الأقباط بشخص مكرم عبيد الذي يعد واحدا من آباء الاستقلال في مصر، كذلك يتم استهدافهم في العراق وفي سورية، فحين بسطت داعش سيطرتها على مناطق واسعة هناك قامت بتجريدهم من المواطنة وفرض الجزية وفي مصر يجري ذبحهم وتفجير كنائسهم.

هذا يعني أن هناك توجها منظما لإخلاء الشرق من المسيحيين، فهل هذا جزء من إرث ثقافي معادٍ لأي آخر ؟ إقصائي ينطلق من ثنائية الخير والشر أم أن الأمر مدروس بعناية ويجري تنفيذه بدقة ؟ إن تجربة العالم بعد الحرب العالمية الثانية تكشف عن أنه حين توقف السلاح في الميدان انتقلت المعارك إلى الغرف المظلمة وأخلى السبيل للمؤامرة تقوم بعمليات فك وتركيب بعيدا عن السلاح وصخبه، وقد كشفت وثائق العقود السبعة الأخيرة أن ما جرى هو تحول في شكل الحروب فقط وأن كل شيء يجري هندسته بهدوء شديد وعلى الورق تلعب فيه أجهزة المخابرات وأصابعها الخفية دورا بديلا عن الجيوش ووزارات الدفاع.

قبل أيام جرى إعدام أحد العملاء في قطاع غزة لاغتياله الشهيد مازن فقهاء .. وقد تداول البعض أن هذا العميل قد اعترف خلال التحقيقات عن قيامه بقتل مواطن مسيحي في قطاع غزة.

من يذكر الحدث حينها يذكر تأثير ذلك على بقاء المسيحيين في غزة والذين أخذوا بالرحيل.. وإذا ما ربطنا هذه الجريمة التي كانت إسرائيل خلفها مع ما يحدث في سورية وما حدث في مصر في الشهرين الأخيرين هل يمكن أن نصل إلى نتيجة؟

ماذا يعني أن يجد الإسلام نفسه وحيدا في هذه المنطقة ولا يجد أمامه غير اليهودية؟ ماذا يعني أن تفقد هذه المنطقة التي كانت ومازالت مهد الديانات هذا التنوع الحضاري الهائل وبدلا من أن تحوله إلى نعمة بدأ يتحول إلى نقمة تهز أركان الدول وكأنه ألغام هناك من يعمل بقوة على نزع فتيلها لتفجير الدول .. هل هذا العنف المنتشر يتيما أم أنّ له أبا وأما وحاضنة وقوى عظمى تدعمه ودولا تقف خلفه بكل ما  أوتيت من قوة ونفط بدأت برشه في الصحارى العربية قبل أن تلقي بعود ثقابها؟

السنوات الماضية كشفت كل شيء ولكن كثيرين آثروا العمى وسط الحريق الهائل فإن كل المجموعات المتشددة لم تخف دعمها من قبل دول كانت شديدة الوضوح في توفير كل الإسناد سواء بالمال أو بالفتوى أو بما تملكه من أساطيل إعلامية عملت على مدار الساعة، وهذا ما أشار له الرئيس المصري في كلمته بالأمس وهو يشير إلى معاقبة دول بعينها عبثت في الأمن القومي المصري.

وزير الخارجية سامح شكري كان أكثر وضوحا عندما أشار بأصابع الاتهام إلى الدوحة التي لم تخف رعايتها لكل هذا الدمار الحاصل في الإقليم من قبل مجموعات كانت تحركها وتمولها وترعاها عندما قال موجها كلامه مباشرة "أن على قطر أن تعرف أن للصبر حدودا".

هناك ثقافة قبلية مناقضة للثقافة المدنية والمواطنة وهناك أموال وارتباطات خارجية وهناك دول هامش تعيش عقدة دول المركز وهناك وهم منفوخ بالغاز المستخرج من تحت البحر، وهناك تربة خصبة جاهزة لتلقف أي شيء باسم الدين وهناك رجال دين قادرون على حرف المسار وفقا لمطابخ أجهزة المخابرات يستغلون أمة تعشق دينها الحنيف حد الاستشهاد في الدفاع عنه لإقناعها بدين المصالح بدل دين الله، دين العنف بدل دين التسامح، وكانت تلك أفضل وصفة لتدمير أمة كان لديها أمل بوحدة الدول مجتمعة لنرى تهديدا حقيقيا لوحدة الدولة الواحدة والمجتمع الواحد.

الأرقام تشير إلى نزوح وهجرة مسيحيي الشرق بشكل لافت وفي هذا خسارة كبيرة ونزيف لا يحتمل يتطلب وقفة بكل السبل، الدول تعمل جهدها ولكن على المثقفين الذين يملكون أن يحولوا هذا التهديد إلى حالة منبوذة بتحريض الرأي العام لحشر الإرهاب .. ليس الإرهاب الذي تقرر وفقا لقائمة الرئيس ترامب في الرياض ضد مقاتلي الحرية بل الإرهاب الذي يضرب مجتمعاتنا تمهيداً لتفتيتها.

ليس هناك خشية على مصر لأن تجاور ديانتين فرضتهما أحداث تدافع التاريخ واستقرار الجغرافيا وأصبحا قدر مصر، ولأن الثقافة المصرية ابنة النيل التي ورثت طيبته ورقته ولكن في الأمر ما يستدعي الغضب من حجم الجريمة الأخيرة ومن نجاح الإرهاب في المس بهؤلاء الآمنين .. إنها جريمة مخجلة لكنها ليست نبتة عابرة بل لها منابع وآبار يجف تجفيفها وإلا علينا السلام لأن سقوط مصر يعني سقوط الإقليم.