عمر حلمي الغول - النجاح الإخباري - كما اليوم قبل 72 عاما انتصرت البشرية على الفاشية والنازية، وتم طي صفحة الحرب العالمية الثانية، التي أودت بحياة ما يزيد عن الخمسين مليونا من بني الإنسان. فضلا عن التدمير الهائل، الذي اصاب مدنا وقرى ومصانع ومستشفيات ومدارس وجامعات ومزارع وبنى تحتية في العديد من الدول المتورطة بالحرب. وبصمت المدافع الوحشي، والتوقيع على وثيقة الاستسلام من قبل المانيا وإيطاليا واليابان في التاسع من أيار 1945، تنفست أمم العالم من اقصاها إلى اقصاها الصعداء، ودشنت مرحلة جديدة من إعادة البناء والعمران والثورة في مجالات الحياة الصناعية والاقتصادية والتجارية وبالضرورة العلمية.

لكن الأمم الأوروبية وفي دول العالم المختلفة في ظل تعاظم التطورات الملازمة لثورة الاتصالات والمعلومات، وبفعل تداعيات العولمة الأميركية، وارتداداتها على منظومة الهويات القومية والدينية وما دونها، وتمكنها من تشويه وتفكيك ملامح الديمقراطية، والسعي لإعادة صهر وتشكيل إقليم الشرق الأوسط العربي والكبير وفق مخطط استعماري جديد، وما تضمنه ذلك من تحولات دراماتيكية، وما أعقبه من  تراجع للعولمة الأميركية، وبروز نظام الأقطاب (الذي ما زال يتبلور حتى اللحظة الراهنة) على انقاض نظام القطب الواحد، دون ان يعني ذلك التخلي عن مشروع الشرق الأوسط الجديد، عادت للظهور بشكل قوي نسبيا قوى اليمين القومي في دول المركز الأوروبي، وتعزز حضورها في المشهد الحزبي والسياسي والثقافي الأوروبي، نجم عن ذلك تهديد حقيقي للديمقراطية والوحدة الأوروبية. إلا أن الشعوب الأوروبية، التي اكتوت بنيران الفاشية، لم تنس ابدا ما حملته القوى اليمينية المتطرفة من ويلات لشعوب الأرض قاطبة، وليس لأوروبا فقط، ما حدا بها للتصدي لممثليها في العديد من الدول، التي شهدت انتخابات رئاسية وبرلمانية في الآونة الأخيرة.

كان آخرها أمس الأول في فرنسا، عندما انتصر الفرنسيون لأنفسهم ولشركائهم الأوروبيين ولعالم من دون فاشية عندما صوتوا لصالح مرشح الرئاسة الوسطي، إيمانويل ماكرون، الذي لم يتجاوز الـ 39 عاما. منحوه 66,10% من مجموع المقترعين مقابل 33,90% لمرشحة الجبهة الوطنية، مارين لوبان. أي مرشحة قوى اليمين الفرنسي المتطرف. وبهذا التصويت جددت فرنسا وقوفها إلى جانب الانتصار على الفاشية، واحتفلت، كما يجب ويليق بالشعوب الأوروبية المكتوية بنار النازية الألمانية والفاشية الإيطالية في اربعينيات القرن الماضي.

ورغم تحفظ قطاعات من الشعب الفرنسي على ماكرون الليبرالي. لكنها بالمفاضلة بين ليبرالية مرشح الوسط، وبين ممثلة الفاشية، إنحازت لصالح أصغر رئيس فرنسي في التاريخ، لأنه ووفق برنامجه: عميق الولاء للديمقراطية، وقيم الجمهورية الفرنسية، ومع المساواة، وضد النزعات المعادية للمهاجرين من شعوب الأرض، ومع تعزيز الوحدة الأوروبية، وتعميق عملية الاستثمار الاقتصادي بين دول وشعوب الإتحاد. لاسيما انه خبير في الشؤون البنكية والاقتصادية، واحتل في ظل رئاسة الرئيس الحالي اولاند أكثر من موقع ذات صلة بهذه الجوانب، آخرها وزير الاقتصاد السابق.

إذا انتصار ماكرون، لم يكن انتصارا لفرنسا لوحدها، انما هو انتصار لأوروبا الموحدة، وانتصار على الفاشية، ورفض لها ولكل النزعات اليمينية الانعزالية، وهو انتصار على كل القوى والأقطاب الدولية المعادية لبقاء الاتحاد الأوروبي، وبهذا القدر أو ذاك، هو رد على خيار بريطانيا فك ارتباطها بالاتحاد، وانتصارا لدماء الضحايا من الملايين في الحرب العالمية الثانية.

وبهذا الفوز الكبير تنفست فرنسا الصعداء، وان كان انتخاب الرجل لا يعني انتهاء أزماتها، لا بل قد تتعاظم التحديات المنتصبة امامه على أكثر من مستوى وصعيد. وبالتالي عليه مواجهة التحديات مع فريق عمل قادر ومؤهل، والحد من ميوله الليبرالية غير الإيجابية. كما عليه تعميق الالتزام بسياسة الرئيس اولاند تجاه قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من خلال دعم خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم، ومواصلة الجهود لتنفيذ مخرجات مؤتمر باريس، الذي عقد اواسط كانون الثاني الماضي، والعمل على الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليعزز دلالة نجاحه وفوزه في ذكرى الانتصار على الفاشية والنازية، لا سيما ان الائتلاف الحاكم في إسرائيل يمضي قدما نحو الفاشية، ويعمل دون كلل او ملل لتصفية خيار السلام وحل الدولتين المذكور اعلاه. فهل ينجح ماكرون في تعميد الدلالة السياسية لفوزه على مرشحة اليمين لوبان؟