د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - ما زلنا نُطالع أراءاً ومقالات تتناول ما يمكن تسميته الأسباب أو الأسرار الخفية للمصالحة، جديتها من عدمها، حقيقية كونها مُصالحة أم مَصلحة، مؤقتة أم دائمة، وليدة وفاق حقيقي أم نفاق سياسي، وغير ذلك من المصطلحات التي تُذكرني بالمثل الشعبي الذي يقول: "الناس بواد ومن يكتب في هذا المضمار بواد".

بالطبع من السذاجة بمكان أن يقتنع المرء بأن هذا التدحرج في خطوات المُصالحة يتم دون مباركة أو رضى دولي وإقليمي عنها بما في ذلك رفع الفيتو الأمريكي والإسرائيلي، وليس لدي من المعطيات ما يجعلني أُحاجج في ذهاب البعض إلى إفتراض سوء النوايا في سياق صفقة سياسية كبيرة يُراد منها إنهاء الصراع وطمس القضية. وحتى ننطلق من قاعدة تفاهم مشترك، فلنُسلم جميعاً أن مصالح كل الأطراف بما فيها الإسرائيلية تقاطعت على ضرورة السير بإتجاه المصالحة الفلسطينية الداخلية، ولكن أليس من المؤكد أيضاً أن فرصة تاريخية قد تهيأت لشعبنا في إعادة اللُحمة ولم الشمل بين جناحي الوطن، ألا يتطلب الأمر أن نغتنمها ونعمل موحدين على توجيه الشِراع بما يخدم آمال وطموحات شعبنا في وحدة تراب الوطن والعيش عليه بعزة وكرامة. إن القضية الفلسطينية ومنذ حدوث الانقسام تعيش أسوأ حالاتها النضالية، وتمر في منعطف خطير يحرفها عن بوصلتها الوطنية، ولا يمكن تجاوزه إلا بوحدتنا الجغرافية والسياسية والإدارية، والتي فيها يكمن مصدر قوتنا في التصدي لأي حلول إقليمية يمكن أن تكون على حساب ثوابت شعبنا الفلسطيني.

فيما يتسم الشارع الفلسطيني، خاصة الضفاوي، بصبغة الترقب الحذر لما ستؤول إليه أمور تطبيق إتفاق المصالحة من نتائج على أرض الواقع، لا أرغب في أن أبدو مفرطاً في التفاؤل في كتاباتي حول الموضوع، ولكن ما يشفع لي معرفتي بمصداقية من أعمل معه، وعلمي بحقيقة تفويض القيادة السياسية له للمضي قُدماً في ترسيخ الإتفاق على أرض الواقع.

ما نشهده يومياً من أحداث وأفعال تقوم بها حكومة الوفاق الوطني تؤكد لي ولجمهورنا الفلسطيني أن إتفاق المصالحة الفلسطينية دخل حيز التطبيق في خطوة لا رجعة عنها، حيث بدأت بالفعل اللجان المختصة بالمؤسسات والموظفين والمعابر والأمن عملها، حتى قبل توقيع الاتفاق بتاريخ 12/10/2017، وأسهمت التوصيات التي قدمتها إلى المجتمعين بالقاهرة في التوصل إليه. وطالعنا في الصحف وصول رئيس هيئة المعابر في السلطة الوطنية نظمي مهنا الى قطاع غزة، ظهر الاثنين الموافق 16/10/2017، بتعليمات من الرئيس محمود عباس، لتنفيذ أول بند من بنود إتفاق القاهرة حول استلام المعابر وتمكين حكومة الوفاق الوطني. وقرأنا في اليوم التالي، الثلاثاء الموافق 17/10/2017، أعلان مجلس الوزراء الفلسطيني عقب جلسته الأسبوعيه على أنه سيستأنف اجتماعاته بشكل دوري بين المحافظات الشمالية والجنوبية، وأنه قرر في نفس الجلسة تعليق سفر الوزراء ورؤساء الهيئات الحكومية الى الخارج إلّا للضرورة القصوى، وطالب بالعمل على تكثيف التواجد الحكومي بالمحافظات الجنوبية في المرحلة المقبلة تحقيقاً لآمال شعبنا في استمرار الجهد من أجل إنهاء الإنقسام، حسب نص البيان الوزاري.

وفي ترجمة عملية وسريعة لتلك المُقررات وصل وزير التربية والتعليم العالي د. صبري صيدم القطاع الخميس 19/10/2017 متوجهاً من فوره إلى مقر وزارته ليُباشر مهامه، ومن البيّن أنه سيحذو حذوه وزراء آخرون في الأيام القليلة القادمة في إطار خطة شاملة، تحدث عنها في أكثر من مناسبة رئيس وزراء حكومة الوفاق الوطني، لاستلام كافة الوزارات والدوائر الحكومية في قطاع غزة وإعادة هيكلتها بما يخدم تحقيق الوحدة الجغرافية والإدارية بين جناحي الوطن.

هذه وغيرها من الممارسات اليومية التي بدأت تشق وتُمهد الطريق لقطار المصالحة تُوجب على من يرغب بالكتابة عن المصالحة أن يتنبه لما حدث ويحدث على أرض الواقع منذ الإعلان عن توقيعها في القاهرة قبل أقل من أسبوعين، وليعلم بأن الركب قد إنطلق ولا عودة إلى الوراء، وإن شاء فليركب مع الراكبين، وقد يكون من الأكثر نفعاً أن يُوجه قلمه ومِداده للكتابة حول سُبل وآليات تمكين حكومة الوفاق بما يخدم في الإسراع بالتخفيف من معاناة أبناء شعبنا في قطاع غزة، إذ أن ذلك مسؤولية الجميع، وفرض عين لا كفاية على كل فلسطيني يحرص على مصالح الوطن العليا والتي لن تتحق من دون دعم وشراكة الكل الفلسطيني ولو بالكلمة الطيبة. ولمن يتعجلون النتائج، نقول رويداً رويداً فسنوات الانقسام العشرة أفرزت في القطاع الكثير من التعقيدات والقوانين التي بحاجة إلى طول النفس لمعالجتها، وبنية سياسية، إدارية، أمنية، اقتصادية، واجتماعية بحاجة إلى إعادة ترتيب لتنسجم في البوتقة الوطنية الشاملة.

إن التخوف المُشار إليه أعلاه في مستهل هذه المطالعة من أن اتفاق المصالحة يلقى ترحيبا واضحا من معظم دول العالم، خاصة العظمى، ودول أقليمية هامة مثل تركيا وبالتأكيد من جامعة الدول العربية وعواصم عربية عدة، يُشكل من وجهة نظري نقطة إيجابية لا سلبية تُمكن من انهاء الانقسام وتؤسس لمرحلة ما بعد إعلان المصالحة، وتستدعي تسخير كافة الإمكانيات لتلبية احتياجات أبناء شعبنا في غزة هاشم، وبضمنها مطالبة الدول العربية الشقيقة والأجنبية الداعمة لحقوق شعبنا الوطنية وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي بسرعة تقديم الأموال اللازمة حتى تتمكن حكومة الوفاق الوطني من تلبية التزاماتها الهائلة المُصاحبة لعملية تمكينها من إدارة القطاع، والسير قُدماً في عملية إعادة إعماره، وفي ذلك مصلحة دولية وإقليمة، حيث أثبتت الأحداث التاريخية المعاصرة أنه لا إستقرار في المنطقة ولا العالم دون التوصل إلى حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية.

ومع التأكيد على محورية الدعم الخارجي لتحقيق المصالحة، فما يزيدنا اطمئناناً تسلم زمام الأمور حكومة فلسطينية تتسم بالمهنية وإستقلالية القرار الإداري، وهي تتمتع بتفويض القيادة السياسية والدعم الفصائلي، عدا عن كونها مؤهلة وراغبة وقادرة على ترجمة اتفاقيات المصالحة في خطوات عملية مدروسة بكل سلاسة ويُسر، حيث أثبتت قدرتها على قيادة دفة السفينة بكل مسؤولية وحرفيّة وسط أمواجٍ نقابية وفصائلية وشعبية وتمويلية متلاطمة، واستطاعت برغم إنحسار الدعم المالي الخارجي للسلطة الوطنية الفلسطينية عبر السنوات القليلة الماضية بما نسبته 70%، أن تؤمن دفع فاتورة الرواتب الشهرية للقطاع العام في موعدها بداية كل شهر مُجنبةً الإقتصاد الفلسطيني الهش أصلاً بفعل قوانين الاحتلال وممارساته هزات سلبية إضافية كانت تعصف باستقراره لانقطاعاتها أو تأخراتها. وفيما يتعلق بقطاع غزة، تُشير الإحصائيات أن حكومة الوفاق الوطني، وبرغم ملابسات وتعقيدات الإنقسام، إستطاعت أن تُنجز ما نسبته 76% من إعادة إعمار البيوت المهدمة كلياً و 63% من البيوت المهدمة جزئياً، أي بواقع 8350 بيت من أصل 11 ألف بيت، مع أن ما وصل من أموال إعادة الإعمار الخمس مليارات دولار الموعودة لم يتجاوز ألـ 36.5%.

وعليه فإن تحمل المسؤولية، التحلي بالصبر، والعمل بروح الفريق الواحد هو الشعار الذي يجب أن يرفعه كل فلسطيني غيور على مصلحة وطنه ومخلص لشعبه وقضيته في المرحلة القادمة.