د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - "إما الاستقلال وإما الحقوق الكاملة للجميع على أرض فلسطين التاريخية"، هكذا ختم الرئيس محمود عباس خطابه التاريخي الذي ألقاه في الدورة ألـ 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ جملة ونبرة أظهرت قوة طرحه، وصلابة موقفه، ورفضه لما أُشيع من حلول مقترحة عُني البعض في تسريبها قُبيل زيارته إلى نيويورك، حيث عَمدت بعض الجهات في الإدارة الأمريكية، وفي إطار تقييم الحلول الممكنة والمقبولة على طرفي الصراع الفلسطيني -  الإسرائيلي، إلى القول من أن الولايات المتحدة الأمريكية تعكف حالياً على اعداد مقترح خارطة طريق، ستطرحها على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في وقت قريب، تتضمن الأفكار والمقترحات الأميركية بشأن عملية السلام، تتبنى فيها بالكامل تصورات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للحل، والمتعلقة بمنح الفلسطينيين حكم ذاتي موسع بديلاً عن حل الدولتين الذي يُشكل جوهر مبادرة السلام العربية وأقرته القرارات الدولية ذات الصلة منذ عقود خلت. وهذا ما نشرته صحيفة القدس صبيحة يوم السبت الموافق 9/9/2017 وأشارت فيه إلى وقوف كلاً من جاريد كوشنير صهر الرئيس ترامب، والمبعوث جيسون غرينبلات، والسفير الأميركي لدى إسرائيل، دافيد فريدمان، المعروفين بتأييدهم المُعلن لإسرائيل وللاستيطان، وراء مقترح خارطة الطريق هذه، والتي من شأنها شرعنة الاحتلال الإسرائيلي وشطب الحقوق التاريخية المعترف بها دولياً للشعب الفلسطيني. 

وتوقع بعض المحللون، وفقاً لتلك التسريبات، أن تدعي الإدارة الأمريكية ممارستها ضغوطاً متوازنة على الجانبين للقبول بمقترح خارطة الطريق أمريكية الصورة والمظهر، إسرائيلية الجوهر والمضمون،؛ فإسرائيل ستكون مطالبة بتقديم تنازلات صورية تتضمن تسليم أجزاء من مناطق "ب" و "ج" إلى الفلسطينين، ومنحهم تسهيلات اقتصادية تلهيهم عن قضاياهم الجوهرية التي تتعلق بإنهاء إحتلال القدس الشرقية، واللاجئين والحدود، بينما ستمارس ضغوط حقيقية على القيادة الفلسطينية لقبول تلك المقترحات. بالونات اختبار كان الغرض منها جس نبض القيادة، بل ومن الممكن ممارسة نوع من أنواع الضغوط المبكرة عليها قبل سفر الرئيس إلى إجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة للتأثير في صياغة كلمته المتوقعة لتأتي متناغمة ومقترح خارطة الطريق التي يُعد لها. بدوره لم يدع أبو مازن مجالاً للشك أو التأويل في رفضه والقيادة لمقترح من وصفهم "بفقدانهم لكل صلة بالواقع"، مؤكداً في ذات الوقت ثقته بجدية وإهتمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الوصول إلى صفقة القرن بخصوص إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية.

وفي حين تفاجأ الأسرائيليون بكلمة الرئيس وحدتها وإعتبرها إعلامهم تحريضية وبعيدة كل البعد عن السلام، خاصة بعد التسريبات المُسبقة التي عمدوا لها مع الأطراف المؤيدة لهم، إعتُبرت هذه الكلمة أكثر من متوقعة وواقعية بالنسبة للمحللين الفلسطينين، الذين يرون أن القيادة الفلسطينية، التي قبلت أصلاً مُكرهةً بمبادرة السلام العربية لما إشتملت عليه من تنازلات كثيرة إضطرت للرضوخ لها نظراً للتراجع الخطير بالاهتمام العربي والإقليمي والعالمي بالقضية الفلسطينية، لم يكن بوسعها أن تقدم المزيد من التنازلات، ولم يكن من خيار آخر أمامها سوى ما قامت بعمله من تأكيدٍ على مطالبتها للأمم المتحدة بضرورة تحمل مسؤوليتها في الضغط على الحكومة الإسرائيلية لإنهاء إحتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، والقبول بحل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة، وحق العودة وتقرير المصير. 

وفي حقيقة الأمر فإن الإرتفاع الملحوظ في حدة خطاب الرئيس سبقته مواقف أخرى له بنفس الوتيرة، تُظهر تمسك القيادة بالثوابت الوطنية المُجمع عليها فلسطينياً، ومنها ما تداولته بعض وسائل الإعلام المحلية في نهاية شهر آب/أغسطس المنصرم نقلاً عن القناة الاسرائيلية السابعة من خبر مفاده أن الرئيس محمود عباس أعرب للمستشار الخاص للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جارد كوشنير الذي التقاه في رام الله عن تمسك السلطة بدفع مخصصات الشهداء والأسرى وبأنها لن توقفها بأي حال من الأحوال، ونُقل عن أبو مازن قوله لكوشنير وفق الصحفي الإسرائيلي جال بيرجر أنه "لن يقطع المخصصات حتى لو كلفه هذا فقدان منصبه وكرسي الرئاسة"، وقوله "سوف أدفعها حتى آخر يوم في حياتي"، في الوقت الذي نعلم فيه جميعاً ما الذي تُحاول إسرائيل تسويقه للجهات المانحة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية إزاء هذا الإلتزام من قبل السلطة.

هذه وغيرها من الأحداث والمواقف المصيرية والهامة تظهر إصرار القيادة الفلسطينية عموماً والرغبة الشخصية للرئيس أبو مازن على وجه الخصوص بأن يُتوج حياته السياسية بالتأكيد على المواقف المُجمع عليها فلسطينياً، وإعادة اللُحمة الفلسطينية الداخلية من خلال تضمينه لخطابه عبارة "أن لا دولة فلسطينية في غزة، ولا دولة فلسطينية بدون قطاع غزة"، وإعرابه عن إرتياحه للإتفاق الذي تم التوصل إليه مؤخراً في القاهرة بجهود مصرية ويُبشر بحدوث مصالحة حقيقية بين طرفي الوطن وتغليب روح الحوار ومصلحة الوطن العليا، وختمه لخطابه بأن "الاحتلال إلى زوال، فإما الاستقلال لدولة فلسطين لتعيش بأمن وسلام إلى جانب دولة إسرائيل على حدود العام 1967، وإما الحقوق الكاملة التي تضمن المساواة للجميع على أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر". 

كلمة تاريخية أجمع عليها الكُل الفلسطيني، وتستدعي في الأيام القليلة القادمة إتخاذ خطوات عملية على أرض الواقع، بزخم جماهيري وفصائلي، تُمكن حكومة الكل الفلسطيني، حكومة الوفاق الوطني، من ممارسة مهامها المدنية والأمنية كاملة على أرض قطاع غزة الحبيب، وإعادة بارقة الأمل لأبناء شعبنا في الضفة والقطاع والشتات بإمكانية تحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام البغيض الذي طال أمده، تلك الحكومة التي أجمعت عليها جميع فصائل العمل الفلسطيني وشُكلت في 2/6/2014 بعد سبع سنوات عجاف من الإنقسام، ووضعت على رأس سلم أولوياتها إعادة إعمار القطاع فكانت زيارتها له بعد أربعة شهور من تشكيلها للإطلاع المباشر من قبل رموزها على مخلفات الحرب الأخيرة والدمار الهائل الذي أحدثته في مختلف القطاعات.

ويُسجل لهذه الحكومة تعاملها بجدية وجرأة وحزم مع ملفات جد شائكة أحدثتها تبعيات الإنقسام برغم كافة العراقيل التي واجهتها داخلياً وخارجياً، الأمر الذي كان له كبير الأثر في الدفع قُدماً بعجلة المصالحة والتمهيد لإختراقات القاهرة الإيجابية بشأنها.