د. سائد الكوني - النجاح الإخباري - في الخامس عشر من شهر آب الجاري توجه الأشقاء الأردنيون إلى صناديق الإقتراع لانتخابات رؤساء وأعضاء المجالس البلدية ومجالس المحافظات في كافة الدوائر الانتخابية في المملكة، وذلك بعد صدور قرار مجلس الوزراء بإجراء الانتخابات البلدية ومجالس المحافظات لهذا العام إستناداً لأحكام الفقرة (أ) من المادة (34) من قانون البلديات رقم (41) لسنة 2015، واستناداً لأحكام الفقرة (أ) من المادة (12) من قانون اللامركزية رقم (49) لسنة 2015، هذا التزامن في إجراء ما بات يُعرف بالانتخابات اللامركزية مع الانتخابات البلدية لا يعتبر مقتضياً قانونياً ولكنه لمبرارت قيل عنها مادية، إقتضتها الأزمة المالية الحالية لموازنة المملكة، والرغبة في إجراء عمليتين انتخابيتين في آن واحد بنفس المخصصات المادية والتي تقدر بملايين الدنانير عوضاً عمليتين منفصلتين بمخصصات مضاعفة، وذهب البعض أيضاً إلى مبرر التخوف من "الكسل الانتخابي" في حال جرت الانتخابات في مواعيد مختلفة ومتقاربة، وعليه فإن مثل هذا التزامن قد لا يتكرر مستقبلاً. 

ما يميز هذه الانتخابات عن سابقاتها اعتبار الكثيرون لها على أنها خطوة هامة على طريق تعزيز أفضل الممارسات لمفاهيم الحوكمة الرشيدة والمشاركة الشعبية في صناعة القرارات التنموية المحلية، وتخفيفاً للضغط على الحكومة المركزية ممثلةً بمجلس الوزراء، وإنصاف المناطق النائية والبعيدة عن العاصمة في حقها من العناية والخدمات. بل وفي حقيقة الأمر يُذهب إلى أبعد من ذلك عندما يتم الحديث عن نقطة تحول مفصلية في النظام السياسي الأردني وفق نهج إصلاحي شامل أطلقه جلالة الملك عبد الله الثاني من شأنه تعزيز المشاركة الجماهرية في صناعة القرار السياسي والتنموي في المملكة الأردنية في خطوة لم يسبق لها مثيل في تاريخها الحديث، حيث سيترتب على هذه الانتخابات تفويض وحتى نقل الكثير من صلاحيات الإدارة المركزية لمجالس المحافظات والهيئات المحلية، ومن شأن ذلك منح الحكومة ممثلة بمجلس الوزراء الفرصة للاهتمام بالقضايا الوطنية الأعم. وأكتسب هذا الموضوع أيضاً أهميةً بالغة في أروقة السياسيين وصناع القرار الفلسطيني منذ زيارة جلالة الملك الأخيرة لفلسطين التي أكدت على عمق العلاقة والارتباط التاريخي بين البلدين في شتى مناحي الحياة. ومن هذا المنطلق تهدف هذه المطالعة إلى التعرف أكثر على هذه الحالة الجنينية في الأردن؛ ما لها وما عليها، ومن ثم الحكم بمدى قربها أو بعدها من الحالة الفلسطينية، وإمكانية الاستفادة منها في دعم وتطوير واقع التنمية المحلية في فلسطين، في ظل تعاظم الإهتمام بهذا الواقع وتطويره منذ عقد وزارة الحكم المحلي الفلسطينية لمؤتمرها الوطني الأول للتنمية الاقتصادية المحلية (LED) في منتصف آذار من هذا العام. 

في حين تعتبر الانتخابات البلدية ضاربة الجذور في الممارسة الديمقراطية الأردنية ويعود تاريخها إلى العام 1925 الذي شهد أول إنتخابات بلدية، يشهد العام 2017 بدوره التجربة الأولى للانتخابات اللامركزية في الأردن، والتي أجريت وفقاً لأحكام قانون اللامركزية لسنة 2015 المشار إليه أعلاه، وتولد بموجبه مجلسين في كل محافظة من محافظات المملكة الأثنتي عشرة؛ الأول مجلس تنفيذي معين بالكامل من قبل الحكومة يرأسه المحافظ، ويتشكل من الحكام الإداريين، ومديري المديريات التنفيذية والإدارات الخدمية، ومديري المناطق التنموية، وثلاثة من المديرين التنفيذيين للبلديات في كل محافظة. ومجلس آخر بأعضاء منتخبين يُسمى مجلس المحافظة، يُنتخب رئيسه ونائبه من بين أعضاء المجلس، ومنح القانون لمجلس الوزراء الحق في تعيين ما لا تزيد نسبته عن 15% من العدد الإجمالي لأعضائه، مع تخصيص ثلثه للنساء. يناط بكلا المجلسين مهام وصلاحيات منفصلة من المفترض أن لا تتعارض في أيٍ منها مع تلك الممنوحة للمجالس البلدية في المحافظات أو تلك لمجلس النواب.

الكُتاب والسياسيون الأردنيون المؤيدون لمجالس اللامركزية المستحدثة يرون فيها إشراك لقطاعات أوسع من المواطنين في تحديد أولوياتهم للتنمية المحلية، ومتابعة أكثر فعالية لحسن سير عمل الأجهزة الادارية والتنفيذية ومجالس الهيئات المحلية وتنفيذ المشاريع التنموية في المحافظة، حيث يُأمل من مجالس المحافظات أن تُعنى بتوفير المناخ الملائم لتشجيع الاستثمار، والحفاظ على ممتلكات الدولة وتطويرها في شتى المناطق، والعمل على توفير أفضل الخدمات للمواطنين، واتخاذ التدابير اللازمة لحماية الصحة العامة والبيئة والتنسيق في حالات الطوارئ إنفاذاً لسياسات الدولة ذات العلاقة، ويُرى في ذلك تخفيف الضغط على السلطة التنفيذية المركزية، وتوزيعه على المحافظات وهي الأدرى بتحديد متطلباتها والأجدر على اتخاذ القرارات المناسبة بخصوصها. يضاف إلى ذلك اتاحة الفرصة للقيادات الشابة في المحافظات للمشاركة في صناعة القرار السياسي في الوطن بغرض توسيع نطاق القبول الجماهري له، حيث يُنظر إلى مجالس المحافظات المنتخبة على أنها برلمانات مصغرة تأخذ على عاتقها تلبية الاحتياجات اليومية لمواطني المحافظات والعمل على إيجاد فرص عمل لهم.

في الجهة المقابلة يرى كتاب وسياسيون أردنيون آخرون بأنه بالرغم من أن مجالس المحافظات الوليدة ممكن تُسهم في تعزيز الممارسة الديمقراطية والقبول الشعبي للقرار السياسي، إلا أنها لن تكون قادرة على تأدية المهام التنموية المناطة بها لأسبابٍ عدة، أُولاها أن القانون يمنح مجلس المحافظة التنفيذي المُعيّن من قبل الحكومة أفضلية على مجلس المحافظة المُنتخب والذي أيضاً تتحكم الحكومة في تعين نسبة لا يستهان بها من أعضائه كما تمت الاشارة إليه آنفاً؛ بما يعني سيطرة الحكومة المركزية على صناعة القرار المتعلق بتحديد وتنفيذ المشاريع التنموية والاستثمارية كونها تُشكل أو/و تتحكم في أغلبية أعضاء مجالس المحافظات. ويحذر هؤلاء من موضوع التداخل والتضارب في الصلاحيات بين أعضاء المجالس المختلفة، حيث يرون على سبيل المثال أن غالبية المهام الممنوحة لمجالس المحافظات هي من إختصاص المجالس البلدية أو يمكنها القيام بها. وفي حين يُروج المؤيدون لقانون اللامركزية أن العمل بمجالس المحافظات يُزيح عن كاهل أعضاء مجلس النواب عبء الإنشغال بالأمور الخدماتيه والتركيز على دورهم الأساسي المتعلق بالقضايا السياسية والتشريعية والرقابية على الأداء الحكومي، يرى المعارضون للقانون في هذا التوزيع للأدوار بوادر صراع محتملة بين المجالس المنتخبة لمحاولة أعضائها التمسك بمتابعة الجانب الخدماتي ذو الارتباط المباشر بحياة المواطنين لما يرونه فيه من ضمانة لإعادة انتخابهم.

وخلاصة القول يبدو لنا أنه من المبكر الآن الحكم على تجربة اللامركزية في الأردن، لحداثة هذه التجربة الاصلاحية والغموض الذي ما زال يُحيط بمفاهيمها في أذهان الكثيرين من المفكرين والعامة بالأردن الشقيق، وكذلك لعدم إمكانية التنبوء بمعيقات تطبيقها على أرض الواقع والنتائج التي ستتمخض عنها لأن ذلك مرهون بالممارسات العملية لمجالس المحافظات المعينة والمنتخبة لمهامها ووضوح مدى التعارضات فيما بينها من ناحية، ومع تلك للمجالس المحلية ومجلس النواب من ناحية أخرى.

أما يتعلق بإمكانية نقل التجربة للواقع الفلسطيني، فينبغي بدايةً الاشارة إلى خصوصية هذا الواقع من جانبين، الأول أن فكرة المجلسين تعكس مفهوم متجزر في النظام السياسي الأردني حيث أن هنالك مجلس الأعيان ومجلس النواب على مستوى المملكة، وبالتالي من المقبول في هكذا نظام أن يُرى مجلسين أيضاً على مستوى المحافظات أحدهما مُعين وآخر منتخب. بينما في السلطة الوطنية الفلسطينية جاري العمل بنظام المجلس الواحد، فهنالك التشريعي على مستوى الوطن، ومجلس المحافظة الاستشاري على مستوى المحافظة والذي يترأسه المحافظ، ويمكن تعزيز دور المجلس الأخير ومهامه وتوسيع نطاق المشاركه فيه بالإستفادة مما ورد في قانون اللامركزية الأردني من أحكام تتعلق بمجالس المحافظات. وأما الجانب الثاني لخصوصية الشأن الفلسطيني فيتمثل في الدور السياسي والنضالي التاريخي الذي لعبته مجالس الهيئات المحلية في الحفاظ على الثوابت الوطنية الفلسطينية وما شكلته من درعٍ واقٍ لها قبل نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية، كما هو الحال حقيقةً بعد نشأتها آبان محاولات الاحتلال الاسرائيلي إضعافها إن لم نقل القضاء عليها خلال فترة الانتفاضة الثانية. إن رؤساء المجالس المحلية الفلسطينية يمثلون في الذاكرة الفلسطينية قيادات وطنية فاعلة ومؤثرة ليس فقط في مناطق نفوذهم وإنما على المستوى الوطني العام، ونستذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر القادة الكبار فهد القواسمي، محمد ملحم، بسام الشكعة، وحيد الحمد الله، كريم خلف، وابراهيم الطويل، الذين أخذوا على عاتقهم قيادة الحركة الوطنية داخل الوطن بتوجهات من القيادة الفلسطينية في الخارج حينها متحدين غطرسة وصلافة الإحتلال وغير آبهين بما تعرضوا له من قمع وتضيق وتنكيل. وعليه فلا يمكن لأي تشريع فلسطيني مستقبلي أن يغفل هذا الدور السياسي الهام لمجالس الهيئات المحلية والتركيز حصرياً على الجانب الخدماتي لها، ومن هذا المنظور فإن مجالس الهيئات المحلية في فلسطين تضطلع بالفعل بالمهام التي نظمها قانون اللامركزية الأردني لمجالس المحافظات المنتخبة، مما يقلل من أهمية الحاجة لاستحداثها في واقعنا الفلسطيني على الرغم من أهميتها البالغة في النظام السياسي الأردني. وأكثر من ذلك فإن وزارة الحكم المحلي الفلسطينية وإنسجاماً مع سعيها الدائم إلى تحقيق رؤيتها الهادفة للوصول إلى "حكم محلي رشيد بمشاركة مجتمعية فاعلة" تضع في صلب إستراتيجياتها العمل على تعزيز القدرات المالية والادارية والفنية للهيئات المحلية بغرض تمكينها من القيام بخدمة مواطنيها في أجواء تتسم باللامركزية المسؤولة.

إلا أن ذلك لا يعني بالمطلق عدم الاستفادة من التجربة الأردنية وغيرها، فصناع القرار في فلسطين مدعون إلى دراسة تجارب مختلف دول العالم بعناية فائقة دونما تبني أيٍ منها بالكامل، حيث أن ظروفها الخاصة ومسوغات قبولها قد لا تتناسب مع الواقع الفلسطيني واحتياجاته، ولكن قد يتم الأخذ من خبرات الآخرين في عملية السعي إلى تطوير خطط وتشريعات تلائم الحالة الفلسطينية في مختلف مجالات بناء الدولة، فنحن بالتأكيد لسنا بصدد إختراع العجلة في إدارتنا لشؤوننا، ولكن خصوصية كوننا دولة ما زالت ترزح تحت نير الإحتلال الاسرائيلي، بما يفرضه ذلك من تحديات جمة ومتنوعة، تتطلب منا المزيد من الحكمة والتأني في ادارة الشأن العام الفلسطيني الذي لا يحتمل الفشل أو التجارب.