نابلس - عاطف أبو سيف - النجاح الإخباري - يمكن الجزم بأن النتيجة الأكبر والأكثر بروزاً للثورة في السودان كانت التطبيع مع إسرائيل. هكذا يبدو الأمر لمراقب خارجي حتى اللحظة. فليس من المؤكد أن الهامش المتاح للفرد بات أكثر رحابة، ولا أن الممارسة الديمقراطية باتت قريبة أو أنها تحققت، كما أنه يصعب الحكم على حزمة الحقوق إذا ما توفرت أم لا، ولكن المؤكد أن من صعد للحكم بعد الثورة لم يكن له همّ إلا نسج علاقات مع تل أبيب بغية التقرب زلفى لواشنطن لأسباب يمكن بسهولة خلق مليون منها؛ حتى يبدو التطبيع مع إسرائيل منطقياً. أسهل شيء في الحياة أن تخلق عذراً لما تفعل، لكن أصعب شيء هو أن تقنع نفسك بأنك لم تختلق مثل هذه الأعذار. الآخرون قد يصدقونك أو أنهم يوهمونك بذلك، لكن هل تستطيع أن تخدع نفسك؟
هذا تحديداً ما تفعله قيادة السودان بعد الثورة، فبدلاً من أن تشغل نفسها في إعادة الاعتبار للحياة السياسية الحقيقة عبر الدفع بعملية الدمقرطة وتطوير بنى المؤسسات السياسية التشاركية، تنغمس في البحث عن علاقة «غير مشروعة» مع العدو. إسرائيل التي كانت قبل أيام من انهيار النظام السابق عدواً أساسياً، بل كان يتم تصنيف الخرطوم بأنها في محور الممانعة (وأنا أتحفظ دائماً على هذا التصنيف) والآن باتت بعد الثورة مباشرة صديقة لتل أبيب. أليس في الأمر مفارقة؟ فالقيادة السودانية الجديدة التي أنتجتها الثورة أو ربما يجدر القول ائتمنتها الثورة على أهدافها تنحي كل هذه الأهداف جانباً، وتفكر كيف يمكن لها أن تنال الرضا من العدو الأبشع للأمة العربية التي تنتسب لها. والمفارقة الأكثر بشاعة أن موقف الشعب لا يهم وموقف التنظيمات لا يهم، وأن ما يهم هو ابتسامة السيد ترامب على حسابه على «تويتر»، تلك الابتسامة التي لا تعني حقيقة أن الخرطوم باتت عاصمة محببة بل انضمت إلى قائمة الولاء الأعمى. أي سخرية تلك؟ حين تصبح غاية القيادة الجديدة إقامة العلاقة مع دولة يعتقد غالبية سكانها الذين قاموا بالثورة بأنها عدو لهم، وأن العلاقة معها محرمة.
يبدو الأمر غريباً فالتجربة السودانية تعيد إلى الأذهاب السؤال حول الربيع العربي مرة أخرى؟ هل حقاً هذا ربيع عربي أم أننا أمام مفارقة جديدة تكشف كيف تحولت المساعي نحو التحول الديمقراطي إلى إمعان أكثر في بحر الطغيان؟ إن تجربة الربيع العربي لم تضف جديداً إلى تجارب التحول الديمقراطي، ولم تقدم برهاناً آخر للباحثين في هذا المجال يمكن الاستفادة منه في رسم مسارات وممكنات التحول من نظام قمعي إلى نظم حر، ومن نظام تسلطي إلى نظام تشاركي كما فعلت تجارب مختلفة، سواء تلك التي تمت في فجر العصر الديمقراطي قبل قرون، أو تلك التي تمت بعد الحرب العالمية الثانية وبعد تفكك جدار برلين، وقبل ذلك تجارب أميركا اللاتينية.
كان علماء التحول الديمقراطي ينظرون بفتنة لعمليات التحول التي كانت تتم في أميركا اللاتينية، ما تبينه معظم أدبيات التحول الديمقراطي، وكانت ثمة تجارب تقدم إفادات حول تصالح الخصوم في سبيل الوصول إلى مستويات فضلى من العملية الديمقراطية. وكانت تلك الممارسات تقدم، بنبضات مختلفة، نماذج تساهم في رسم سيناريوهات مختلفة يمكن أن تكون دليلاً لرسم النظرية التحويلية كما بات يطلق عليها. وربما أن الأحاديث عن موجات الديمقراطية التي وضعها هنتغتون وطور عليها آخرون من أودنيل وشميتر وويتهيد قدمت مداخلة متفائلة حول فرص تحقق عمليات تحول ديمقراطي في سياقات مختلفة في حال توفرت الشروط الكافية.
الربيع العربي بدوره كان محط جذب الباحثين، وكان ثمة من يعتقد أنه يمكن الحديث عن عمليات تحول حقيقية تطال بنى النظم السياسية، وتكون ذات أثر عميق علي طبيعته الديمقراطية. ظهر بعض التفاؤل وصار يتم الحديث عن التحول الديمقراطي العربي. وأصيب دعاة «التعذر» الديمقراطي من مدرسة الاستشراق بالخيبة من أن العرب باتوا يتجهون للتحول وأن العقدة التي تمثلها الثقافة العربية والتي تجعل من الديمقراطية مواطناً غير مرغوب به بدأت تتفكك. ولم تمض أشهر حتى تراجع التفاؤل بعد أن تحول الأمر إلى اقتتال دموي على السلطة وصراع محموم على الحكم، وبعد أن بات واضحاً أن القوى الخارجية أكثر تأثيراً من الأهداف النبيلة للنخبة الجديدة. صحيح أن القوة الخارجية كانت دائماً صاحبة قول فصل في بعض تجارب التحول، وأظن أن «ويتهيد» من انتبه لذلك مبكراً في منتصف التسعينيات، إلا أن دور هذه القوى لم يكن يوماً أكثر حضوراً من قوى التحول الديمقراطي نفسها. وبشكل عام، فإن التجربة العربية أيضاً نأت بنفسها عن هذا النموذج، وقدمت نموذجاً مختلفاً يجعل عمليات السعي نحو التحول ليس بأكثر من اقتتال آخر على السلطة.
وربما يمكن الإفاضة في هذا لاحقاً، ولكن بالعودة إلى ارتباط كل السابق بالتطبيع السوداني مع إسرائيل، فإن قيادة ما بعد الثورة في السودان انقلبت على تطلعات الثورة، ولم تنجح في الوقوف على حقيقة مشاعر المواطنين، بل تمردت على الرغبة الجماهيرية الرافضة للتطبيع وضربت عرض الحائط بها. النتيجة أن الثورة السودانية أو الربيع السوداني أتى بديكتاتورية جديدة ولكن ضمن أطر مختلفة. ما حصل أن المواطن حصل على عكس ما طلب، أو أنه تم استحضار قضايا لم تكن في الحسبان. هناك الكثير الذي يمكن قوله حول العملية الديمقراطية وربما عيوبها ونواقصها، ولكن المؤكد أن الديمقراطية لا يمكن أن تخالف رأي الأغلبية. ربما أن ثمة أقلية كبيرة يتم تجاوز رأيها بسبب الأغلبية الطفيفة، لكن أن يتم تجاوز الإرادة الجماهيرية من أجل فرض تصورات فردية للحكام الجديد فتلك ديكتاتورية جديدة. يصعب علينا تصديق هذا؛ لأننا كلنا أردنا ربيعاً عربياً حقيقياً.