نابلس - عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - في إطار سلسلة المراجعات الملحّة توقفنا عند طبيعة المشروع الصهيوني وضخامته بالمقارنة مع الإمكانيات المتواضعة وكذلك أمام الانقلابات الزلزالية الثلاثة التي أضيفت إلى حجم وتوسع هذا المشروع، ثم توقفنا عند الأهمية الاستراتيجية الخاصة لوحدة الشعب الفلسطيني كضرورة حيوية لمجابهة هذا المشروع، وللحفاظ على وحدة القضية والوطن والمصير، ثم عرجنا على أهمية التفريق ما بين التحرر الوطني والاستقلال الوطني لإعادة قراءة القضية الوطنية ومشروعنا الوطني على حد سواء.
من بين أهم مسائل المراجعة كما أرى هو الموقف من «حل» الدولة الواحدة، والدولة الثنائية القومية، وحل الدولتين لكي نحاول إعادة صياغة البرنامج الوطني وبما يشكل برنامجاً للحل الاستراتيجي، وليس للحل السياسي فقط، وبما أسميه الحل التاريخي (النهائي) للمسألتين الفلسطينية واليهودية في آنٍ معاً.
تنطلق هذه الصياغة من فرضية مفادها، أن حل الدولتين مهما بلغت درجة القناعة به، وكذلك درجة تحققه على الأرض، ودعم المجتمع الإقليمي والدولي له فإنه يبقى حلاً مؤقتاً وانتقالياً طالما أنه لم يتضمن المكونات الرئيسة لحق تقرير المصير، وطالما أنه يفتقد لحل حقيقي لقضية اللاجئين، وطالما أنه لا يؤمّن وحدة الشعب والوطن (الأرض) والحقوق (القضية) والمصير.
وأي ادعاء بأن حل الدولتين هو حل نهائي وعادل، أو يمكن أن يصبح كذلك من دون العودة وتقرير المصير، هو ادعاء مخادع ومضلل لنا كشعب وللإسرائيليين وللعالم كله.
هو حل صحيح، وهو حل ممكن، وهو حل مجمعٌ عليه العالم والشرعية الدولية ولكنه ليس عادلاً ولا نهائياً من دون حق تقرير المصير والعودة.
إذا قبلنا بحل الدولتين ـ على حدود الرابع من حزيران ـ ونحن قد قبلنا فعلاً، فعلينا أن ندرك أنه حل سياسي وليس تاريخياً.
حل يؤدي أو قد يؤدي إلى هدنة طويلة، وإلى تعايش يمكن أن يمتد لعقود ولكنه لن يؤدي أبداً إلى مصالحة تاريخية.
حل الدولة الواحدة يمكن أن يؤدي إلى مصالحة كهذه، وكذلك حل الدولة الثنائية القومية ولكنّ هذا الحل أو الحلين سيظلان مشروطين بالتغير الجذري الديمقراطي داخل المجتمع الإسرائيلي لمرحلة تاريخية قد تمتد لعقود وعقود، وقد تتحقق أو لا تتحقق، وفي كل هذه الأثناء نحن موضوعياً وعملياً نكون قد «جمّدنا» حقوقنا الوطنية وركزنا جل جهودنا على إحداث التغيير.
في نفس هذه الأثناء سيكون المشروع الصهيوني يجهز إمكانياته وقدراته وأدواته وتحالفاته الهائلة لإجهاض هذا المشروع، وسيكون مهتماً على نحو خاص باستغلال الفاصل الزمني الذي يمتد بين يومنا هذا وحدوث التغير والانقلاب «المنشود» لقطع الطريق على هذا المخطط، بعد أن نكون قد «تخلّينا» عنها طواعية أو ضمناً، وأصبحنا مجردين منها وليس لدينا أي سند قانوني أو شرعي من زاوية القانون الدولي أو الشرعية الدولية، ومن زاوية تبني الإقليم والعالم لهذه الحقوق.
هذه الحلول القائمة على تغيرات مفترضة في المجتمع الإسرائيلي «ستفرض» عند درجة معينة من تفاقم الصراع وفي سياقه بوساطة «حصار» المجتمع الدولي للسياسات الإسرائيلية وإسقاط النظام السياسي الذي ينتهج هذه السياسات...!
هذا التصور خاطئ كلياً للأسباب الآتية:
• لا يجوز لحركة تحرر وطني تحت أي ظرف كان أن تتخلى طوعاً أو قسراً عن حقوق شعبها التي يعترف بها المجتمع الدولي والقانون الدولي في سبيل مراهنة سياسية، مهما كانت هذه المراهنة واقعية أو قابلة للتحقق في يوم من الأيام، كما لا يجوز لها أن تؤجّل هذه الحقوق أو تتهاون بشأنها أو تهادن عليها مقابل أي فرضيات وافتراضات مهما كانت لسبب بسيط، وهو أن حركة التحرر في هذه الحالة تكون قد قبلت في الواقع استبدال نفسها بحركة إنسانية اجتماعية ثقافية بدلاً من حركة وطنية سياسية.
وتكون قد جردت نفسها من شرعيتها السياسية والوطنية على حد سواء. وتكون قد «مهدت» لاستفراد المشروع الصهيوني بالشعب الفلسطيني واستكمال بقية فصول المشروع بما في ذلك الترحيل الجماعي القسري ناهيكم طبعاً عن مجمل العمليات الممنهجة للترحيل «الطوعي» لأسباب اقتصادية واجتماعية.
• كيف سنتمكن من النضال ضد الاستيطان أو مصادرة الأرض أو حتى الضم طالما نحن «نناضل» من أجل العيش في دولة واحدة، وما هي قدرات هذا النضال، و»مسوغاته القانونية والسياسية والقانونية الحقوقية».
ولماذا سنجد في إطار المجتمع الإسرائيلي قطاعات سياسية واجتماعية، وكيف سنجدها إلى جانبنا طالما نحن لم نعد ننشد سوى «العيش» في دولة واحدة، من دون أي مطالبات وطنية تستجيب لحقوقنا الوطنية؟
• ألسنا نعيش منذ احتلال الضفة والقطاع في «كنف» دولة واحدة.
وهل غيّر مسار أوسلو شيئاً جوهرياً واحداً على هذا الصعيد؟ أم أن الوقائع التي كرسها المشروع الصهيوني على الأرض قبل أوسلو وبعد أوسلو، ومنذ اليوم الأول للاحتلال هي السيطرة على الأرض، واستيطانها وتهويدها وإخضاعها لمزيد من عمليات السيطرة والتحكُّم؟
فما هو الشيء الجوهري الذي سيتغير على هذا الواقع إذا ما استبدلنا برنامج التحرر الوطني ببرنامج النضال المدني؟
• وهل قضية الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني فقدت أهميتها الخاصة في سياق الصراع مع المشروع الصهيوني أم أن أهميتها قد زادت وتعاظمت وأصبحت وتحولت إلى مسألة وجودية حاسمة في صراعه مع هذا المشروع؟
• لو كان المشروع الصهيوني مجرد احتلال عسكري، ولو كان الاستيطان الذي يرافق ويلازم هذا الاحتلال يتشابه مع الاستيطان الفرنسي في الجزائر لأمكن الحديث عند درجة معينة من تطور مفاهيم النضال المدني، ولو كان الأمر يتشابه بالواقع الذي كان قائماً في جنوب إفريقيا لأمكن تفهم برنامج من هذا النوع.. لكن الذين يؤيدون فكرة الدولة الواحدة يغفلون ـ كما أرى ـ عن أن التشابه الوحيد بين استيطان فلسطين لا يشبه أو يتشابه مع أي استيطان في التاريخ المعاصر والحديث للبشرية إلاّ في حالتين فقط، وهما: استيطان بريطانيا ومن لحق بها فيما بعد للولايات المتحدة بوساطة إبادات جماعية، موثقة للسكان الأصليين وهم الهنود الحمر، وكذلك استيطان بريطانيا نفسها لأستراليا وتصفية سكانها الأصليين بقدر ما كان ممكناً ومتاحاً.
هنا نحن أمام عملية احتلال وإحلال، وتحويل القادم إلى مجتمع بكامله له كيانه ودولته وجيشه، وتطهير عرقي مباشر في المرحلة الأولى، أي مرحلة النكبة ثم استكمال الاحتلال وسيطرة كاملة على الأرض وإقصاء وتهميش من تبقى من أصحاب البلاد الأصليين في المرحلة الأولى ومحاصرة السكان الأصليين في المرحلة الثانية وتحويل حياتهم إلى جحيم وعزلهم وحصارهم ومنع أي شكل من أشكال تطورهم.
وهذا هو واقع الحال بالنسبة لأهلنا في إسرائيل، وهذا هو واقع الحال بالنسبة لشعبنا الرازح تحت الاحتلال في الضفة والقطاع.
إذا رجعنا إلى كافة البرامج الفلسطينية حول الحل النهائي أو الحل الاستراتيجي، أو التاريخي فهي جميعها، ومن دون استثناء واحد تنطلق من قاعدة التسليم بوجود هذا المجتمع الإسرائيلي وبعدم واقعية واستحالة الانطلاق من نفي هذا الوجود.
والدولة الديمقراطية التي طرحت في بدايات الثورة الفلسطينية المعاصرة، ومشروع الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران، والدولة الواحدة، والدولة الثنائية القومية كلها تنطلق من هذا الواقع بصرف النظر عن اختلاف النظرة للدولة الإسرائيلية.
من يعتقد أن المشروع الصهيوني قد انتصر بصورة حاسمة في فلسطين عليه أن يراجع كل حساباته.
المشروع الصهيوني لم ينتصر، لأنه فشل في الإحلال، رغم انتصاره الكاسح في الاحتلال، وقد نجح جزئياً في الإحلال وفشل حتى الآن في استكمال الإحلال.
اليوم على أرض فلسطين من النهر إلى البحر يوجد من الفلسطينيين ما يوازي أو يزيد على اليهود الإسرائيليين، وسيكون بعد 6 – 7 سنوات فقط عدد الفلسطينيين في العالم كله يقارب عدد اليهود في كل العالم.
فشل المشروع الصهيوني بالمقارنة مع أهدافه الكبرى والأصلية معناه أن الحل الوحيد الذي بات ممكناً بالمعنى التاريخي هو مصالحة تاريخية تنهي الصراع على قاعدة حق تقرير المصير وبحقوقه الوطنية، وهو الحل الذي يوفره قرار التقسيم فقط لا غيره، وكل ما هو دون هذا الحل ـ وهو ليس عادلاً ولكنه ممكن ـ هو حل انتقالي ومؤقت ناهيكم عن كونه مجحفاً وظالماً بما لا يمكن البناء عليه.
في المقال القادم سأبيّن كيف أن قرار التقسيم بالرغم من كل الملابسات التي أحاطت به هو الحل الوحيد الممكن.