نابلس - عادل شديد - النجاح الإخباري - على الرغم مما تحققه اتفاقية التطبيع الإماراتية الإسرائيلية من إنجازات كبيرة لإسرائيل، سواء بحصولها على الاعتراف بوجودها دولة طبيعية في المنطقة، قبل إنهاء احتلالها، ومن دون إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية، وسواء في ما تحققه من فوائد سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، إلا أن الاتفاقية أيضا تحمل رموزا ودلالات مهمة مرتبطة بجوهر المشروع الصهيوني وأهدافه في المنطقة.
المصادفات في السياسة الإسرائيلية قليلة، ولكن الرحلة الجوية الرسمية المباشرة الأولى بين إسرائيل والإمارات قبل أيام، وضمت الوفد الإسرائيلي برئاسة رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مائير بن شبات، ومستشار الرئيس الأميركي، جاريد كوشنر، تزامنت مع ذكرى المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل في سويسرا في 1897، بزعامة مؤسس الحركة الصهيونية، تيودور هرتزل، والذي أعلن في نهاية المؤتمر أن بناء الوطن القومي لليهود يتطلب دعما ورعاية من الدول العظمى في كل الأزمنة، وأن فارق القوة العسكرية والاقتصادية بين اليهود والعرب سيدفع العرب أخيرا إلى قبول دولة اليهود واقعا لا يمكن تغييره. كما أن تسمية حكومة إسرائيل الطائرة الإسرائيلية الأولى التي حطت في مطار أبوظبي باسم غريات غات لم يكن أيضا مصادفة، لا بل هي مدروسة بعناية ودقة، حيث أقيمت مستعمرة إسرائيلية بهذا الاسم على أنقاض بلدتي عراق المنشية والفالوجة بين الخليل وغزة، والتي شهدت في 1948 مواجهات استمرت فترة، تمت خلالها محاصرة قوات من الجيش المصري، كان فيها جمال عبد الناصر، وبقيت حاضرة في وعي الرئيس المصري الراحل. وتريد إسرائيل من التسمية إيصال رسالةٍ مضمونها نهاية البعد العربي والقومي للقضية الفلسطينية، وبقاء الفلسطينيين وحدهم في مواجهة المشروع الصهيوني.

قد يعيد التاريخ نفسه بإنتاج تحالف أميركي إسرائيلي عربي سني في مواجهة إيران وتركيا، كما حدث في الحرب العالمية الأولى، بالتحالف ضد الإمبراطورية العثمانية في حينه

وإذ يتم اليوم توقيع معاهدتي "سلام" اليوم مع الإمارات والبحرين في البيت الأبيض بحضور بعض العرب، يومين بعد الذكرى الـ27 لتوقيع اتفاقية اوسلو في المكان نفسه (البيت الأبيض)، فالرسائل في هذا متعددة، أهمها الإعلان الرسمي عن نهاية مرحلة المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل على قاعدة الأرض مقابل السلام، والانتقال إلى مرحلة السلام والتطبيع العربي مقابل لا شيء إسرائيليا. كما يراد بعث رسالة إلى الفلسطينيين، فحواها أنكم ممن خاضوا في الاتفاقات مع إسرائيل، فلا يجوز لكم انتقاد الأنظمة العربية التي توقع اتفاقات سلام مع إسرائيل تحقيقا لمصالحها. ولكن الأوضح أن توقيع الاتفاقيتين مع الإمارات والبحرين يصب في مصلحة إسرائيل بشكل عام، واليمين ورئيسه بنيامين نتنياهو بشكل خاص، سواء في ما يخص شعاره بالسلام مع العرب مقابل السلام، من دون تقديم أي ثمن إسرائيلي مهما كان حجمه ضئيلا، والأهم من ذلك كله ما يردّده نتنياهو، منذ الإعلان عن اتفاقية التطبيع الإماراتية الإسرائيلية، أن العلاقات العربية الإسرائيلية لم تعد مرتبطةً بالصراع مع الفلسطينيين، ولا بقرارات جامعة الدول العربية، بعد أن فرطت مسبحتها، واستنكفت عن إشهار موقف من اتفاقيتي البحرين والإمارات مع إسرائيل، وأن مرحلة الاتفاقات الثنائية العربية الإسرائيلية قد بدأت، بمعزل عن الفلسطينيين ومواقفهم، وذلك اعتقادا من نتنياهو أن ذلك سيدفع الفلسطينيين إلى اليأس، واللحاق بمؤخرة القطار، قبل أن يبتعد عنهم ويتركهم وحدهم. وتوظيف نتنياهو مظاهر الفرحة الرسمية الإماراتية بالاتفاق، المنفلتة وغير المضبوطة، تعني حرمان الفلسطينيين من حق الاعتراض (الفيتو) على علاقات الدول العربية مع إسرائيل، من دون حل القضية الفلسطينية، الأمر الذي يشكل، بدون أدنى شك، ضربة قوية للحركة الوطنية الفلسطينية والقضية الفلسطينية، ويصب في مصلحة الحركة الصهيونية وروايتها، اليمينية منها خصوصا.

العلاقات العربية الإسرائيلية لم تعد مرتبطةً بالصراع مع الفلسطينيين، ولا بقرارات جامعة الدول العربية، بعد أن فرطت مسبحتها

وقد شكلت الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية، ومثيلتها البحرينية الإسرائيلية، انتقالا بالعلاقة بين الطرفين من السرية وتحت الطاولة إلى المرحلة الرسمية العلنية، والذي تم التعبير عنه من خلال تصريحات معظم أعضاء الوفد الإسرائيلي الذين شاركوا في الرحلة الجوية الأولى من تل أبيب إلى الإمارات، عبر الأجواء السعودية، حين كشفوا أنهم زاروا الإمارات ضمن وفود رسمية في العشرين سنة الأخيرة مرارا، لكنها لم تكن علنية، بعكس الرحلة الحالية، كما تبين أن نتنياهو زار الإمارات سرا قبل عامين.
إقدام دولة الإمارات، ومعها مملكة البحرين، على التطبيع العلني، بعد السرّي، مع إسرائيل، لا يعكس تحدّيا لما تبقى من إجماع عربي، أو استخفافا بالشعوب العربية والقضية الفلسطينية فحسب، بل إنه أيضا ينطوي على عدم استخلاص العبر من نتائج وآثار اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة على أصحابها، والتي لم تجن سوى الخسارة الوطنية والقومية والانهيار وزيادة الفقر، بعد أن تعمّقت حاجتها للأميركي والإسرائيلي عسكريا وأمنيا واقتصاديا، ولم تعد مستقلة في قراراتها السيادية، فيما أصبحت إسرائيل تمتلك أدوات كثيرة التأثير والتحكّم في سياسات تلك الأطراف. وهذا ما ظهر مع الإمارات التي أعلن المتحدث باسم وزارة خارجيتها، قبل أيام، أن ضم إسرائيل مناطق في الضفة الغربية مستقبلا لن يؤثر سلبا على مسيرة التطبيع بين الطرفين، على الرغم من محاولة تبرير الإمارات الاتفاق بإلغاء قرار الضم، الأمر الذي نفاه فورا الجانبان، الأميركي والإسرائيلي.

شكلت الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية، ومثيلتها البحرينية الإسرائيلية، انتقالا بالعلاقة بين الطرفين من السرية وتحت الطاولة إلى المرحلة الرسمية العلنية

قد يعيد التاريخ نفسه بإنتاج تحالف أميركي إسرائيلي عربي سني في مواجهة إيران وتركيا، كما حدث في الحرب العالمية الأولى، بالتحالف ضد الإمبراطورية العثمانية في حينه، والتي لم تجن منه الأنظمة العربية أي فائدة، لا بل إن وعود ومراسلات حسين ــ مكماهون تبخّرت، وحل محلها وعد بلفور، ومنح فلسطين للحركة الصهيونية، واتفاقية سايكس بيكو والانتدابان، البريطاني والفرنسي على الدول العربية، لكن الظروف تختلف الآن، وتركيا ليست الرجل الضعيف المريض كما كانت آنذاك، ولا حتى إيران، على الرغم من حصارها. وبالتالي، قد تأتي الأمور بنتائج عكسية تماما، فيطرأ النقيض لأي محاولة تطبيع عربي إسرائيلي، سواء بالفكر القومي أو الديني. ولذلك النصيحة إلى حكام الإمارات، أن يفكروا بمصالح بلدهم ومستقبله، وكذا إلى ملك البحرين، وذلك بالتريث والضغط على الفرامل، لأن السلوك المتسرع الملحوظ من أبوظبي والمنامة يؤكد أنهما تجهلان إسرائيل، ولم تتعظا من التجارب السابقة، خصوصا أنه في مقابل الانفلات في التعبير عن الفرحة الإماراتية، تسيطر حالة من الاستخفاف والتطنيش على المجتمع الإسرائيلي من الاتفاقية، لانعدام العداء أصلا مع الإمارات، ولأن الأمور كانت جيدة مع أبوظبي قبل الإعلان عن الاتفاقية، على الرغم من قناعة الإسرائيليين بفوائدها. ولم ينطل تضخيم نتنياهو الاتفاقية على أغلبية المجتمع اليهودي، فاستمرّت المظاهرات ضده، وما زالت قضايا كورونا والخسائر الاقتصادية وفساد نتنياهو هي ما تهيمن على النقاش الإسرائيلي العام، وليس اتفاقية التطبيع مع الإمارات كما أراد نتنياهو.

نقلا عن جريدة العربي الجديد..