ايهاب بسيسو - النجاح الإخباري - -١-
يمكن النظر إلى التجارب والمراحل السياسية من خلال قراءة الأحداث والمواقف ومحاولة بلورة خلاصات ممكنة في إطار فهم المتغيرات السياسية اقليمياً ودولياً.
فبالعودة واحد وأربعين عاماً إلى الوراء أي منذ اتفاقية كامب ديفيد في عام ١٩٧٩ مروراً باتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ ووادي عربة ١٩٩٤ وصولاً إلى عام ٢٠٢٠.

يمكن رؤية الحراك السياسي العربي في إطار المكاسب السياسية الاستراتيجية لصالح المصالح العربية عموماً والقضية الفلسطينية خصوصاً متواضعاً بعض الشيء ولم يحقق بشكل فعال أي من النتائج التي كانت متوقعة سياسياً للمساهمة في خلق أجواء من الاستقرار في المنطقة والمرتبطة أساساً بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
بل على العكس تماماً فبالتوازي مع هذا المسار السياسي المعقد ازدادت حدة الأزمات والنزاعات الاقليمية وزادت وتيرة التوتر الاقليمي ولم تتوقف ماكينة المراوغة الاسرائيلية عن تعطيل أي مبادرة سياسية من خلال خلق مختلف الذرائع الأمنية ودفع المنطقة إلى أتون صراعات خفية بشكل مباشر وغير مباشر.
ما جعل لاحقاً المبادرة العربية للسلام والتي تم الاعلان عنها خلال القمة العربية في ييروت في عام ٢٠٠٢ مجرد صياغة لغوية غير قابلة للترجمة السياسية الفعلية.

تكمن المسألة إذاً في القدرة على جعل الأزمات المتتالية مدخلاً لتفكيك الفضاء العام عربياً وذلك من أجل خلق فضاءات سياسية ضيقة بحجة البحث عن منافذ استراتيجية لصالح حل سياسي يستند إلى المرجعيات والمواثيق الدولية، ما جعل الحالة السياسية العربية تعاني من التناقض والارتباك وعدم القدرة على إحراز أي تقدم فعلي في إتجاه تحقيق وتنفيذ المبادرة العربية.

-٢-
يمكن فهم صناعة الأزمات كجزء من التحرك السياسي الضروري أحياناً لتجاوز أزمات أخرى ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية ما ينتج عنه في المحصلة متتالية من الأزمات التي تعمل على تفكيك بعضها البعض في سياق المصالح المشتركة أو بقدر الانسجام والقدرة على بناء التحالفات دولياً واقليمياً.

هنا يأتي دور المصالح المتقاطعة والمتوازية وكيفية استثمار ذلك في سياق صناعة الأزمة كجزء من حل أزمات أخرى وهو ما يجعل أكثر من لاعب اقليمي إلى جانب لاعبين دوليين تقليديين ينظرون إلى المنطقة العربية باعتبارها مختبراً للنفوذ والهيمنة والقدرة على السيطرة أو التأثير على حركة الاقتصاد صعوداً أو هبوطاً بما ينسجم مع مصالح واهتمامات الدول ذات العلاقة اقليمياً ودولياً.

بهذا لا يمكن فصل أي عامل من عوامل التشكل السياسي في المنطقة وصناعة الرأي العام عن سياق الأزمات المتتالية والتي تظهر بوضوح في مختلف المحطات السياسية على مدار الأربعين عاماً على الأقل.

ما دفع تدريجياً ومع استمرار انتشار الأزمات إلى الوصول إلى حالة من شبه الجمود السياسي وتقلص الخيارات المتاحة عربياً والدور الفعال دولياً والقبول بالممكن المتاح استراتيجياً من أجل الحفاظ على بنية الوضع القائم بما لا يتعارض مع سياسات النظام الدولي المبرمج ضمن مصالح الدول الكبرى.

-٣-
معادلة الاقتصاد والاستفادة سياسياً واقتصادياً معادلة نسبية وغير ثابتة بل وفي سياق وجود عامل عدم الاستقرار الأبرز في المنطقة والمتمثل بالاحتلال الاسرائيلي وسياساته الاستعمارية تصبح هذه المعادلة على المستوى الاقليمي على الأقل نوعاً من المقامرة السياسية أو القفز في الهواء أو الهروب إلى الأمام.
على الرغم من محاولات الاحتلال نفسه الترويج لذاته كعامل استقرار من خلال ما يمكن أن يقوم بتقديمه من خدمات أمنية واقتصادية وتكنولوجية تحاول جعل علاقاته مع المنطقة مسألة منفصلة عن سياق القضية الفلسطينية أو بمعنى آخر عزل القضية الفلسطينية عن امتدادها العربي والاقليمي في مقابل تعزيز مكانة دولة الاحتلال بما يستطيع ترويجه كاستقرار بديل.

وهنا تكمن الخطورة فاستدراج البعد الاقليمي تدريجياً من خلال مزاعم الاستقرار والتطور الاقتصادي والمنفعة المتبادلة والمشتركة لا يمكن أن يوفر أي أرضية صلبة للاستقرار في ظل استمرار الاحتلال، بل يحمل في طياته أزمات جديدة قد لا تبدو واضحة بالشكل الكافي في المدى المنظور ولكن بالاستناد إلى التجارب السابقة خلال الأربعة عقود الماضية على الأقل يمكن فهم بعض ملامح وطبيعة التحرك السياسي خصوصاً خلال السنوات القليلة الماضية من خلال محاولات متعددة لإعادة تشكيل خارطة العلاقات الاقليمية ضمن مفاهيم جديدة ترى في القضية الفلسطينية حالة انسانية ببعد سياسي يمكن معالجتها ضمن حلول اقتصادية ومالية وهذا بحد ذاته مأزق جديد أو متجدد يسعى لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها السياسي والتاريخي والقانوني والحضاري.

-٤-
بلا شك فإن معضلة الجمود السياسي بحاجة إلى تفكيك كما أن إعادة صياغة السياسات في سياق إدارة المتغيرات الاقليمية والدولية مسألة ضرورية وملحة وتأتي في سياق الحركة السياسية المستمرة والمصالح المختلفة ولكن ليس عبر الهروب إلى الأمام من خلال تجاوز أسباب الأزمة في المنطقة والمتمثلة بالاحتلال أو التعامل معها باعتبارها مسألة هامشية يمكن احتواءها في سياق تطوير برامج وسياسات تنموية أو اقتصادية.

الهروب إلى الأمام لا يعني بالضرورة مكاسب استثنائية أو تعزيز لحضور اقليمي أو دولي ...
بل على العكس تماماً قد يؤدي إلى تصدعات سياسية من شأنها أن تزيد من حالة التفتت والارتباك السياسي.

بالإضافة إلى أن الهروب إلى الأمام قد لا يعني دفاعاً استراتيجياً أو اختراقاً تكتيكياً من أجل دعم حالة من الاستقرار أو من أجل خلق مناخات وآفاق جديدة للعمل السياسي في المنطقة بل يعني صناعة أزمة جديدة من أجل تفكيك أزمات موازية سواء على مستوى داخلي أو اقليمي وبالتالي ما قد يظهر سياسياً على أنه اقتراب من عمق المسألة السياسية بهدف المساهمة في إيجاد حل أو اختراق لصالح الاستقرار هو في واقع الأمر ابتعاد فعلي عن جوهر المسألة لصالح مظهر سياسي هش لا يوحي بالاستقرار رغم كل المزاعم التي تحاول نفي ذلك.

-٥-
إن صناعة الأزمة - الحل أو الحل - الأزمة أصبح ملازماً لكثير من التحركات السياسية وهو ما قد يدفع أحياناً إلى إحداث تغيرات سطحية على طبيعة المشهد دون الوصول إلى عمق الأزمات الحقيقي والمساهمة في إيجاد حلول جذرية.
لذا يمكن القول بأن ما تم وصفه مؤخراً من قبل البعض عربياً ودولياً على أنه إنجاز سياسي أو اختراق استراتيجي أو دبلوماسي قد يليه انجازات وخطوات مشابهة هو في واقع الأمر بداية لمرحلة جديدة سيظهر معها ملامح أزمة جديدة ستتضح مفرداتها السياسية والاقتصادية تدريجياً مع طبيعة المتغيرات السياسية اقليمياً ودولياً وستتراجع امكانيات تحقيق أي تقدم في مسار الاستقرار المزعوم في ظل بقاء بنية الاحتلال قائمة وسياساته الاستيطانية مستمرة.

من الطبيعي في ذات السياق أن تكون وسائل الإعلام الواجهة التي تعمل على تبرير وتفسير أو نقد أي حراك سياسي بما لها من قدرة على صناعة الرأي العام وقدرة على التشتيت أحياناً وقدرة على بلورة أشكال متعددة من الوعي الجمعي للقضايا المختلفة.
كما أنه من الطبيعي أن يصبح فضاء وسائل التواصل الاجتماعي مزدحماً بمختلف أشكال التعبير عن التوجهات السياسية والوطنية.
ولكن هذا النشاط الإعلامي بحد ذاته وعلى الرغم من أهميته التفاعلية هو جزء من صناعة الأزمة - الحل وبالتالي يصبح الدور الوظيفي للإعلام متمماً للدور السياسي والاقتصادي ومرتبطاً بشكل وثيق بالتوجهات الاستراتيجية للدول التي تعمل على تمرير أو تبرير سياساتها المختلفة.

-٦-
إن الوعي بخطورة المرحلة وحاجة العديد من الأطراف الاقليمية والدولية لتحسين شروط وضعها السياسي والاقتصادي وفي ظل تداعيات أزمات اقتصادية عالمية يدفع إلى ضرورة بناء تصور شامل يستند بالتأكيد إلى الشرعية الدولية من جهة وإلى خيارات سياسية دقيقة في ظل الحراك السياسي الاقليمي والدولي.
مع التأكيد على أهمية تمكين بنية العمل السياسي الفلسطيني وتطوير قدرات الصمود الوطني من خلال تفعيل آليات المشاركة السياسية والخروج من إطار الجمود السياسي ضمن رؤية شاملة رغم كل الصعوبات والتحديات التي لا يمكن تجاهلها أو استبعادها عن طاولة المتغيرات السياسية في المنطقة.

-٧-
لا يمكن صياغة الحلول السياسية من خلال البلاغة الانشائية سياسياً والمرافعات التبريرية أو النقدية ولا من خلال المناكفات الإعلامية والسجالات المتلفزة ولكن من خلال القدرة على خلق مزيج فعال من الفعل السياسي المؤسساتي والشعبي والقانوني والدبلوماسي والإعلامي والاقتصادي يدفع باتجاه كسر طوق الجمود في السياسة العربية وتحقيق التطلعات الفلسطينية بإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.