نابلس - عادل الأسطة - النجاح الإخباري - في الأسبوع المنصرم، فكرت فيما سأكتبه في ذكرى رحيل الشاعر الذي عادت أسطره الشعرية تحضر في اليوميات التي أكتبها تحت عنوان «الست كورونا»، وعبثا أفلحت في التخلص من تضمين مقالاتي أسطرا مما كتب.
مرة تحداني الدكتور خالد المصري وهو طبيب قارئ لأشعار درويش ومتابع في الوقت نفسه لمقالاتي في «دفاتر الأيام»، تحداني إن خلا مقال لي من ذكر الشاعر وشعره، وعندما أخذت أكتب عن فن الرواية تحقق ذلك فكسبت الرهان.
على أنني شخصيا لم أتمكن من نسيان أشعار درويش، فهي تحضر على لساني باستمرار حتى لو لم تحضر في مقالاتي، وغالبا ما تحضر في يومياتي، وعندما قرأ المحامي الحيفاوي فؤاد نقارة كتابي «حزيران الذي لا ينتهي» أحصى عدد المرات التي اقتبست فيها مقاطع من شعر الشاعر.
غير مرة كتبت إن درويش هو الغائب الحاضر، وإنه من الشخصيات الأدبية الفلسطينية التي صاغت وعينا وشكلته، وما زالت.
عندما سمعت عن انفجار بيروت الأخير حضرت قصيدة «بيروت»، وقد أدرجت على صفحة الفيس مقطعا منها، ولا أعرف حتى اللحظة إن كان هناك دارس كتب عن صورة بيروت في أعمال الشاعر، فبيروت لها مكانة أثيرة في قلبه تعادل مكانة حيفا، ولها حضور لافت في إبداعه لا يقل عن حضور حيفا أو أي من المدن التي أقام فيها. بل إن ثمة مدنا أقام فيها فترة أطول من الفترة التي أقام فيها في بيروت، ولم يكتب عنها، ومنها مدينة رام الله التي قال فيها «لا أمس لي فيها» وإنها تبنى على عجل.
في مقال نثري كتبه عندما شاهد شريطا تسجيليا عن إعادة بناء مخيم شاتيلا، بعد أربع سنوات من الخروج الكبير من بيروت في ١٩٨٢، وعنوان المقال «حنين مكبوت إلى بيروت»، كتب عن علاقته بالمدينتين؛ حيفا وبيروت، الآتي:
«ولا يحق لك أن تتذكر بيروت، ولا أن تقول إن هذه المدينة الملتبسة، المدينة - المدن، المدينة - الجزيرة - الغابة عاصية على الكتابة، لقد صاغت كل من مر فيها، ولم يقدر أحد على صياغتها. عشت فيها عشر سنين، أكثر مما عشت في حيفا. ولا يأذن أحد لك - لو استأذنته - بأن تواصل الإصغاء إلى إيقاع ما فيها من أسرار، ولا أن تنمي حاسة العلاقة بتفاصيل شوارع سلخت منك مهابة الموت وفخامته..».
وأعتقد أن ما كتبه الشاعر عن بيروت حببنا فيها لدرجة أننا صرنا مثل المعلم الذي أحب أم عمرو من خلال بيت جرير - وقصة الجاحظ مع هذا المعلم معروفة، وهي قصة طريفة.
في نهاية العام ١٩٨٠ وبداية العام ١٩٨١ كتب درويش قصيدة «بيروت» ونشرها في «الكرمل» وأسست تلك القصيدة علاقة حب بيننا وبين بيروت. صار كثيرون منا، حتى ممن لم يزوروا المدينة، يعشقون بيروت، ولعشقهم حفظوا مقاطع من القصيدة وصاروا يكررونها كما كرر المعلم بيت جرير، ولو سمعنا الجاحظ لرثى لحالنا كما رثى لحال المعلم. هل يمكن أن تنشأ علاقة حب بين طرفين دون أن يلتقيا؟ ربما!!
في تلك الأيام انهوسنا بالقصيدة وبالمدينة وصرنا نكرر:
«بيروت خيمتنا
بيروت نجمتنا».
لم يمض عامان على القصيدة حتى كتب الشاعر قصيدة «مديح الظل العالي» وكان لبيروت فيها نصيب كبير، وفيها تغدو المدينة مدينة مقاومة تتعرض للقصف على مدار ٢٤ ساعة، وتأتي القصيدة على فجر بيروت وصبحها وظهرها وعصرها وليلها، ويصرخ الشاعر:
«يا فجر بيروت الطويلا
عجل قليلا،
لأعرف إن كنت حيا أو قتيلا».
حلت «مديح الظل العالي» محل قصيدة «بيروت» ولا أبالغ إن قلت إن كثيرين حفظوا مقاطع طويلة من القصيدتين، وكنت خصصت كل واحدة منهما بكتابة، نشرت الأولى في جريدة «الشعب» والثانية في مجلة «الكاتب».
في «مديح الظل العالي» كتب درويش «بيروت غصتنا» ولعل هذه العبارة تصدق لوصف مشاعرنا حين سمعنا عن الانفجار الأخير وشاهدنا صورا له.
في «حنين مكبوت إلى بيروت» يكتب الشاعر عن المدينة:
«وبيروت تواصل سفك دمها. دم يملأ الأرض والشاشة. دم يسيل سدى. اختلطت فيها قوى القتل وانفصلت لتتكاثر بوحشية. الوحش يملأ الحاضر والأفق. ولا نرى خطابا أو رسالة. هل بقي أحد يموت؟ من أين يأتون بكل هؤلاء القتلى؟ كان الموت مطرا عاديا وذبابا عاديا، ثم تحول إلى لغز. من يقتل من ولمن؟ مدينة تقف في أقصى الجنون والدهشة صاغت لها موسوعة جحيم يختلف عن موسوعات التراجيديا الإنسانية. مدينة تستنهض أول تاريخ الغابة. مدينة جميلة تستعصي على النسيان. مدينة يؤمنها من رآها يوما واحدا. وفي استراحات الموت القصير تنبثق منها الحياة طليقة طازجة، تطبع الكتب وتنشر المآدب وتغني، كأن الحياة هي الاستثناء. إنها معجزة»، فهل ثمة وصف أبلغ من هذا؟
بيروت غصتنا. هل ستغدو بيروت مثل الأندلس؟ وكما ربط الشاعر بين فلسطين والأندلس فإنه في مقالته، وهو يشاهد الشريط، ذكر الأندلس وقرطبة.
ترى ماذا كان الشاعر سيكتب غير هذا لو بقي على قيد الحياة وشاهد مناظر الانفجار؟!

نقلا عن صحيفة الايام