النجاح الإخباري - بقلم / اللواء بلال النتشة

كان المشهد في شوارع قطاع غزة وهي تغص بالجماهير العريضة التي خرجت لإحياء ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية الخامسة والخمسين يعبر عن ولاء وحب منقطعي النظير لحركة "فتح" ولقيادتها التاريخية التي لم تفرط بالثوابت الوطنية وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس . ولم تتحول على مدى سني الصراع المرير مع اسوء وآخر احتلال في التاريخ الى حركة تبشيرية او تنظيرية تظهر ما لا تبطن بل بقيت ناصعة وشفافة واوراقها مكشوفة للجميع وذلك لأسباب عديدة ابرزها ان ليس للحركة أي اجندات غير وطنية مرتبطة بإقليم او بمشروع دولي يتجاوز المشروع الوطني الفلسطيني .

وعلى مدى خمسة وخمسين عاما من النضال الشرس ضد الاحتلال وان كان مر بمراحل مد وجزر او انتقال من كفاح مسلح في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي الى انتفاضة الحجر عام 87 ثم الى الانتفاضة المسلحة عام 2000 وأخيرا الى المقاومة الشعبية المستمرة في كل بقاع الوطن ، لم تتنازل " فتح" عن مبادئها او عن الثوابت الوطنية التي تجمع عليها كل الفصائل المنضوية في اطار منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للكل الفلسطيني في الوطن والشتات ، وظلت ومازالت الأمنية على وصايا الشهداء وعهدهم وها هي تدفع فاتورة هذا الوفاء لأنها رفضت المساومة على حقوقهم او الرضوخ لتجريم نضالهم المشروع رغم تعرضها لحصار سياسي ومالي غير مسبوقين .

كل هذا الإرث المشرف من الفعل النضالي المنظم للخلاص من الاحتلال وتحقيق امال وطموحات شعبنا بالحرية والعودة والاستقلال ، اكسب الحركة ثقة الجماهير الفلسطينية الواعية بحقوقها والمتشبثة بها وهو ما دفعها للالتفاف حول الحركة وقيادتها التاريخية التي لم تكن في يوم من الأيام تنظر الى أبناء شعبها من أبراج عاجية بل امتشق قادة الحركة السلاح وقاوموا في الخندق مع اخوة ورفاق لهم ، منهم من قضى ومنهم من ينتظر . وفي الميدان السياسي قاتلت هذه القيادة ببسالة من اجل الثوابت الوطنية وظلت على عهد " الختيار " الذي استشهد وهو متحصن في عرينه بمقر المقاطعة ولم يلق البندقية رغم ان فوهة المدفع كانت على بعد امتار من جبهته التي لم تتدلى في الحياة وظلت باسقة حتى بعد الشهادة . فهكذا هم العظماء ترحل ارواحهم ويظل تاريخهم ممجدا في ذاكرة الأجيال التي تحمل الراية من بعدهم .

وجاء القائد الكبير الأخ الرئيس " أبو مازن" ليكمل مسيرة الكفاح الوطني التي اطلقت شرارتها الاولى حركة " فتح" بقيادة الخالد فينا الى الابد " أبو عمار" بكل ما اوتي من خبرة وحنكة سياسية وضع فيها الخصوم في زاوية شديدة الضيق فبدأت المؤامرة تتدحرج ككرة الثلج حتى تجلت بكل وضوح في الانقلاب على الشرعية في قطاع غزة بتدبير خارجي وبأيدي فلسطينية ، ما أدى الى عودة الأمور برمتها الى مرحلة الصفر . وبدلا من الانشغال في كيفية وضع استراتيجيات وطنية بين كل فصائل العمل الوطني والاسلامي للعمل في جبهة واحدة تؤدي الى تحقيق اهدفنا الوطنية ،عدنا الى الانشغال في كيفية معالجة التداعيات والازمات التي أحدثها الانقلاب والتي أدت الى تراجع كبير في مدى الاهتمام العالمي والعربي والاسلامي بالقضية الفلسطينية .

رغم كل الاسى والمرارة التي تعتري النفوس بفعل الانقلاب وبالتالي الانقسام والذي يجري العمل على جعله انفصالا كليا ما بين الضفة وعلى رأسها القدس وقطاع غزة عبر التوصل الى تفاهمات ما بين كل من حركة " حماس" وإسرائيل مقابل تسهيلات اقتصادية ثمنها السياسي كبير جدا وهو تكريس الاحتلال كأمر واقع في الضفة وإعادة انتشاره وتمركزه على الحدود في القطاع مع ضمانات امنية بعدم الرد على أي عدوان إسرائيلي يتعرض له أبناء شعبنا هناك . الا ان حركة " فتح" مازالت تمد يدها للمصالحة وتقول بكل جرأة ان هناك فرصة للتراجع والعودة الى البيت الوطني الجامع وهو منظمة التحرير التي لا مناص من الاعتراف بها من قبل كل الفصائل الإسلامية وعلى رأسها " حماس" اذا كانت النوايا وطنية وصادقة والهدف هو تحرير الوطن من براثن الاحتلال وليس البقاء في السلطة من اجل السلطة .

على ذلك ، فإنه بتقديري الشخصي والذي ربما يتفق الكثير من المراقبين معي فيما اصرح، بان الشارع الغزي قال كلمته في ذكرى احياء الانطلاقة الخامسة والخمسين عندما تمنى الناس على الهواء مباشرة ان تعود حركة " فتح" لتحكم قطاع غزة بعد ان ضاق بهم الحال ذرعا على جميع المستويات وبعد اربع حروب مدمرة مازالت اثارها الإنسانية المؤلمة بادية للعيان . هذا الولاء الجماهيري العريض للحركة لا بد وان يشكل دعوة لمن يتربعون على كرسي الحكم في القطاع الى مراجعة الذات والاعتراف بحقيقة جلية واضحة كالشمس في رابعة النهار وهي انه لا مناص من الشراكة الوطنية على أسس واضحة القاسم المشترك فيها ، تحقيق الحرية والاستقلال والخلاص من الاحتلال . فهذه مسألة استراتيجية وان اختلفت التكتيكات فيما بيننا .

ان إبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة ولها احترامها وتقديرها على المستويات العالمية والعربية والاسلامية ، يتطلب منا نحن الفلسطينيين أولا وقبل أي طرف آخر ، ان نعيد الهيبة الى وحدتنا الوطنية عبر انهاء الانقسام فورا وذلك بالتوجه الى انتخابات حرة ونزيهة التي دعا اليها الرئيس "أبو مازن" من على منبر الأمم المتحدة وان نرفض رفضا باتا ان تجرى هذه الانتخابات بدون القدس لا ان نطالب بإصدار مرسوم رئاسي بهذا الخصوص قبل البت في جوهر المسألة وهي مشاركة المقدسيين ترشحا وانتخابا في هذه العملية الديمقراطية التي نامل ان تتحقق في الفترة القريبة القادمة حتى يحسم الشارع امره ويقول كلمته الصادقة بشأن من يريد ان يمثله في كلا المؤسستين التشريعية والرئاسية والنتيجة حتما ستكون ملزمة لكل الأطراف .

بالعودة الى انطلاقة " الفتح" ، فإنني لا انكر ان مسيرة كفاحية طويلة عمرها " 55 عاما" اعتراها الكثير من الإخفاقات رغم تحقيق الكثير من الإنجازات في مقدمتها الانتصار على الذين اختزلوا القضية الوطنية بقضية إنسانية لشعب يبحث عن معونات غذائية ليستطيع البقاء حيا . فتمكنا وعبر مراكمة سنين من النضال ان ننقل القضية الفلسطينية الى جدول اعمال العالم لتصبح القضية السياسية الأولى وبامتياز . وهذا الانجاز يسجل ل" فتح" وبقية فصائل العمل الوطني التي لم تنفك عن المقاومة الهادفة للحرية والاستقلال حتى هذه اللحظة .

ان حركة " فتح" وهي تدخل عامها السادس والخمسين متسلحة بحب الجماهير لها وولائهم المطلق للثوابت والمبائ الوطنية ، تعاهد أبناء شعبنا بان تظل الوفية والمخلصة لدماء الشهداء وعذابات الاسرى والجرحى ، مؤكدة انها لن تكون منصة للمتسلقين وعابري السبيل وأصحاب المشاريع الإقليمية والذين يعتبرون معاول هدم لكل ما تم بناؤه عبر عشرات السنين من الكفاح والنضال الوطنيين المعمدين بالدم . وهي تشدد أيضا على انها لن تسمح باستمرار المساومة على حقوق شعبنا العادلة من اجل مكاسب فريدة او حزبية على حساب شعب بأكمله دفع ضريبة غالية من اجل ان يكون له نشيد وعلم يرفرف فوق اسوار ومآذن وكنائس القدس . وفي الوقت الذي نؤمن فيه بالحتمية التاريخية بأن النصر حليف الاوفياء ، فإننا نؤكد بأن بقاء الوضع الداعي للرثاء في قطاع غزة ، لن يستمر الى ما لا نهاية وسيقول أبناء القطاع كلمتهم ان عاجلا ام أجلا . وحتى ذلك الحين نقول لكم :" انطلاقة مجيدة ومعا وسويا حتى القدس ."

 

نقلا عن صحيفة القدس