نبيل عمرو - النجاح الإخباري - عقب الجولتين الانتخابيتين اللتين أخفق فيهما بنيامين نتنياهو في تشكيل الحكومة، وذلك بفعل ظهور وافد جديد يتمتع بكفاءة المنافس، ظهر نوع من التسرع في استنتاج نهاية بدت حتمية لنتنياهو مفادها إما البيت وإما السجن. وحتى الآن وإلى أجل غير معلوم لم يذهب الرجل لا إلى البيت ولا إلى السجن.

لقد نجح نتنياهو في قلب المعادلة التي أوشكت على إقصائه عن الحياة السياسية، إذ فرض أجندته الخاصة على خصومه ومؤيديه، ففي الليكود أطاح بالرجل الوحيد الذي تجرأ على منافسته داخل قلعته السياسية ووفّر لنفسه فرصة ربما ينجح فيها، وهي حصوله على حصانة برلمانية تساعده في البقاء على الملعب السياسي لمدة إضافية، لعلها تنتج خلاصاً له من المآزق التي فُرضت عليه، وهي من النوع الذي لو تعرض لبعضها زعيم غيره لغادر الحياة السياسية إلى غير رجعة ومن «أول لفة» كما يقال.

نتنياهو صاحب أطول زمن في سدة الرئاسة منذ تأسيس الدولة العبرية، والرجل الذي انقسم الإسرائيليون عليه على نحو لم ينقسموا على غيره من الزعماء الكثيرين والأكثر أهمية منه في تاريخ إسرائيل... جزء يراه نقمة والآخر يراه نعمة، ولا حياد في هذا التقويم لا من قِبل أفراد أو أحزاب أو كتل. وحيال هذا الوضع ظهرت موهبة نتنياهو في توظيف هذا الانقسام حوله لمصلحة بقائه في مركز اللعبة الداخلية ولأطول فترة ممكنة.

ولا شك في أن كارهيه يتفقون مع محبيه على الاعتراف بأنه ظاهرة سلبية أو إيجابية، لم يسبق لها مثيل في مستوى رجال أو نساء القمة في إسرائيل، فهو مقاتل شرس وجريء حين يقترب الخطر منه ومن مكانته، وهو سائل زئبقي يتسرب من بين الأصابع حين تطبق عليه يد الخصوم، وللتذكير فقد أطبقت عليه في فترة ما يد معظم مؤسسات الدولة ذات الشأن المشهود لها في أمر قوة إسرائيل وتفوقها.

وفي إدارته للشأن الإسرائيلي، وهو منفرد ومتفرد في هذا المجال، يُظهر نتنياهو المتكرس كقائد لليمين المتشدد مرونةً يهاجمه عليها خصومه الذين يرتدون ثوب الاعتدال، والجنرال غانتس هو رمزهم في هذه المرحلة، إذ يأخذ الجنرال المعتدل على العقائدي المتشدد مرونة في أمر غزة ويهاجمه عنوة لأنه لم يقم حتى الآن باجتثاث الخطر من جذوره، وبأنه أكثر من مرن ومعتدل بل ومستسلم في أمر التهدئة مع «حماس».

ولحسن حظه أنه في أمر السياسة الخارجية لا يوجد لا في معسكر الأصدقاء ولا في معسكر الخصوم من ينافسه في مجال الحركة والإنجاز، ولم يكن اختياره للرجل الباهت كاتس وزيراً للخارجية لمجرد الرشوة، بل ليكون مرآة عاكسة لقوة أداء نتنياهو الذي جمع دعم ترمب وبوتين وكثيرين ممن لا نذكر أسماءهم في هذا المجال، حتى اختياره للطفل السياسي والعقائدي بينيت ليضعه على رأس أقوى مؤسسة في إسرائيل هي المؤسسة العسكرية والأمنية، فلم تغب عن حساباته المقارنة بين أدائه حين كان هو وزيراً للدفاع وبين أداء من اختاره خلفاً له، المقارنة هنا هي بالتأكيد في مصلحة نتنياهو وبنسبة مائة في المائة.

لقد مر على رئاسة الحكومة في إسرائيل رجال أقوياء يتقدمهم في كتب التاريخ المؤسس بن غوريون والمؤسس الآخر مناحيم بيغن، وغيرهم ممن يقتربون من مستواهما في الكفاءة وقوة الحضور، إلا أن أحداً من أولئك الكبار والأقوياء لم يتلاعب بمقدرات الدولة العبرية ومكوناتها مثلما تلاعب بها بنيامين نتنياهو، فلم تنجُ من مناوراته وحصاراته وحروبه أي مؤسسة مهما بلغت من القداسة وسمو المكانة، ولا مبالغة أو شطط حين وصفه أحد الكتّاب الإسرائيليين المرموقين بأنه يمسك بإسرائيل من رقبتها ويقودها داخلياً وخارجياً إلى حيث يشاء ووفق ما تتطلبه شروط بقائه على رأس السلطة وفي مركز اللعبة.

كل ما تقدم يسجَّل في رصيد قدراته الاستثنائية على البقاء، إلا أن لظاهرة نتنياهو ارتدادات عكسية بطيئة وسريعة مباشرة وغير مباشرة، وهذه الارتدادات تهز أساسات ما يعد أهم مصدر قوة للدولة العبرية وهي المؤسسات، فقد تخلخل وضع المؤسسة القضائية على نحو لم يحدث مثله في أي عهد سابق، وتخلخل التراث والمناخ الديمقراطي الذي تباهت به إسرائيل على كل من هم حولها من خلال مقولة الواحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط ليتبدل هذا التراث بديكتاتورية الأغلبية التي ترى الزعيم فوق المؤسسات وفوق القانون لمجرد الفوز بفارق صوت واحد.

أخيراً، تسجَّل لنتنياهو براعة استثنائية في تأمين أطول فترة بقاء على رأس السلطة، غير أن هذا الذي يسجَّل له هو بالتأكيد ليس في مصلحة دولة إسرائيل.