النجاح الإخباري - رغم أن اليهود الأميركيين لا يشكلون أكثر من 3% من مجموع سكان الولايات المتحدة، فإن نفوذا كبيرا لهم داخل مراكز صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية، وذلك من خلال لوبي صهيوني (أو إسرائيلي أو يهودي) منظم ومؤثر. يتكون هذا اللوبي من عشرات المنظمات التي تعمل بنشاط على توجيه السياسة الخارجية الأميركية، لتحقق مصالح دولة إسرائيل، ولتنسجم مع سياستها، وبخاصة تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. لا يضم اللوبي الصهيوني يهودًا أميركيين فقط، بل يضم في صفوفه أيضا العديد من الصهيونيين المسيحيين، الذين يؤمنون بأن قيام دولة إسرائيل في فلسطين عام 1948 هو جزء من نبوءات التوراة والإنجيل، والتي تعتبر مقدمة لعودة المسيح إلى الأرض منتصرا.

من أهم المنظمات الصهيونية الأميركية نذكر اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة (AIPAC)، رابطة اليهود الإصلاحيين في أميركا (ARZA)، منظمة جي ستريت (J Street) ومنظمة المرأة الصهيونية في أميركا (HADASSAH). في ما يلي سأتناول أهم هذه المنظمات الصهيونية، ليس فقط في الولايات المتحدة وإنما في العالم أيضًا، ألا وهي اللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة (إيباك).

تأسست منظمة "إيباك" (AIPAC – The American Israel Public Affairs Committee) في الخمسينيات من القرن الماضي، وكان اسمها "اللجنة الصهيونية الأميركية للشؤون العامة"، ثم غيرت اسمها إلى "لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية" بهدف توسيع قاعدتها الجماهيرية. يعمل هذا "اللوبي" الصهيوني للضغط على دوائر صنع القرار الأميركية لدعم إسرائيل، ماديا وسياسيا وعسكريا، ويتمتع بنفوذ كبير في الدوائر السياسية في واشنطن، وبخاصة في الكونغرس والبيت الأبيض ووزارة الخارجية. وقد تفاخر المدير التنفيذي السابق لمنظمة "إيباك"، ستيفن روزن، في مقابلة أجرتها معه مجلة "نيويوركر" عام 2005، بأن بإمكانه أخذ منديل ورقي من على أي طاولة في مجلس الشيوخ، وأن يجمع عليه توقيعات 70% من أعضاء مجلس الشيوخ دعمًا لأي قضية يريدها ("القدس العربي"، 19/2/2019).

تضم منظمة "إيباك" اليوم حوالي مئة ألف عضو أميركي، أغلبيتهم الساحقة من اليهود ومن المسيحيين الصهيونيين. وتدعم "إيباك" شبكة تضم أكثر من 70 منظمة يهودية تابعة لها. وتقدر ميزانيتها السنوية بأكثر من مئة مليون دولار، بعضها يتم تأمينه عن طريق الاشتراكات السنوية التي يدفعها الأعضاء، والبعض الآخر يتم من خلال التبرعات التي يقدمها مانحون أميركيون أثرياء. وهذه الميزانية لا تشمل تبرعات أعضائها المباشرة (ولكن بموافقتها وإشرافها) لبعض المرشحين في الانتخابات الأميركية. ولا تحصل "إيباك" على أي دعم مادي من الإدارة الأميركية أو من حكومة إسرائيل.

من أهم الأهداف التي تعمل "إيباك" على تحقيقها: دعم سياسة أميركية ترتكز على أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، وأن السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين يتحقق فقط من خلال المفاوضات المباشرة، ضمان استعمال حق النقض (فيتو) الأميركي ضد أي قرار في الأمم المتحدة يدين إسرائيل، وتعزيز التعاون بين أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية، والضغط على مجلس النواب ومجلس الشيوخ الأميركيين من أجل سن قوانين وتعديل قوانين لصالح إسرائيل، والإشراف على توجيه الهبات التي يمنحها الممولون اليهود لمرشحي الانتخابات الأميركية، ومنع إيران من الحصول على تكنولوجيا الأسلحة النووية. وبالإضافة إلى ذلك، تشرف "إيباك" على إعداد قادة محتملين للولايات المتحدة موالين لإسرائيل من الأجيال الناشئة، ووصل بعض هؤلاء إلى مناصب قيادية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وأصبحوا أعضاء في مجلس النواب والشيوخ.

تتمتع "إيباك" بنفوذ كبير في الكونغرس الأميركي، ما يجعل إسرائيل مُحصَّنة هناك من أي انتقادات. ويرجع ذلك بالأساس إلى قدرة "إيباك" على مكافأة المشرّعين وأعضاء الكونغرس الذين يدعمون جدول أعماله، ومعاقبة أولئك الذين يعارضونه. وغالبًا ما يتم ذلك باستخدام المال، فيحصل المرشحون من أصدقاء "إيباك" في الانتخابات على دعم مالي كبير من قبل العديد من اللجان السياسية المؤيدة لإسرائيل، ويعاقَب من تعتبرهم مرشحين معارضين بتقديم الدعم المالي لمنافسيهم. ولغسل دماغ أعضاء الكونغرس وصناع القرار، تعمل "إيباك" على ترتيب زيارة لهم لإسرائيل، وتغطي "إيباك" وأذرعها جميع نفقات هذه الرحلات. كما تلعب "إيباك" دور المستشار لأعضاء الكونغرس حول القضايا المتعلقة بالعالم العربي والشرق الأوسط، كتلك المتعلقة بالتطرف والإرهاب. وفي ضوء هذا التأثير الكبير، ليس مستغربًا أن تفتح النائبة المسلمة في مجلس النواب الأميركي، إلهان عمر، على نفسها وابلا من الانتقادات التي اتهمتها بمعاداة السامية، عندما نشرت تغريدة على "تويتر" أشارت فيها إلى استخدام "إيباك" المال في التأثير على النواب الأميركيين، ما اضطرها لاحقا إلى الاعتذار.

وتمارس "إيباك" تأثيرها على البيت الأبيض أيضًا، إذ بات من الصعب جدًا انتخاب رئيس أميركي إذا لم يكن مواليا لـ"إيباك"، وبالتالي لإسرائيل أيضا. ولذلك دأب الرؤساء الأميركيون على إلقاء خطابات أمام المؤتمر السنوي لـ"إيباك"، تأكيدًا على دعمهم لإسرائيل، وطمعًا في كسب دعم اللوبي الصهيوني لهم. ففي خطاب ألقاه باراك أوباما، وهو الرئيس الأكثر اعتدالا في تاريخ الولايات المتحدة، في مؤتمر "إيباك" السنوي في 22 مايو/ أيار 2011، أشاد بإسرائيل ورفض المحاولات الفلسطينية لاعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية من جانب واحد، وقال إن دعوته السابقة إلى دولة فلسطينية على حدود 1967 حُرِّفت. وأدان أوباما في الخطاب نفسه اتفاق المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس" حينها.

أما الرئيس الحالي دونالد ترامب، فقدم تعهدًا في خطابه أمام مؤتمر "إيباك" يوم 21 آذار/ مارس 2016 بأنه سيقيم تحالفا قويا بين بلاده وإسرائيل، وأعلن أنه سيعارض أي محاولة من الأمم المتحدة "لفرض إرادتها" على إسرائيل، متهما إياها بأنها ليست صديقة لإسرائيل. وبالتزامن، تعهد ترامب بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، معتبرا إياها "عاصمة إسرائيل الأبدية."

ولإرضاء اللوبي الصهيوني، ضمّ ترامب إلى إدارته ما لا يقل عن عشر شخصيات يهودية مؤثرة، على رأسهم صهره جاريد كوشنير، وممثله الخاص جيسون غرينبلات، وديفيد فريدمان (سفير الولايات المتحدة في إسرائيل)، وهو ما أدّى إلى حدوث تغيير واضح في السياسة الأميركية المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وتبني ترامب المواقف الإسرائيلية اليمينية المتطرفة ذاتها، فقد اعترف فعلا بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وشطب صفة الاحتلال عن الضفة الغربية واعتبرها مناطق "غير محتلة"، ومؤخرا اعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

مقابل هذا اللوبي الصهيوني المنظَّم والمؤثِّر، توجد في الولايات المتحدة لوبِيّات عربية صغيرة ومتفرقة، والتي لا يجمعها سقف واحد ولا رؤية مشتركة. فتقريبا، لكل سفارة عربية في واشنطن لوبي خاص بها، من الأصدقاء والمؤيدين والمناصرين، ولكن هذه اللوبيات تعمل بشكل فردي، ولا تنسق في ما بينها، ولا تتجمّع عندما تواجهها قضية مشتركة. والأدهى أن هذه اللوبيات الهزيلة، كاللوبيّين السعودي والإماراتي، لا تكترث بقضايا العرب الأساسية، كالقضية الفلسطينية، وبدل ذلك تركز على الخطر الإيراني وتمرير "صفقة القرن"، وتحرض على بعض الجيران، وترتبط بعلاقات وثيقة مع لوبيات صهيونية مختلفة، وتدعو إلى التطبيع مع إسرائيل.

وهكذا، فإن وجود لوبي صهيوني منظم ومؤثر، وبالمقابل غياب لوبي عربي جامع ومؤثر، بل ووجود لوبيات عربية صهيونية أو شبه صهيونية، يفسر، جزئيا على الأقل، تحالف وانحياز الولايات المتحدة مع إسرائيل.

نقلاً عن: عرب 48