نابلس - عبير بشير - النجاح الإخباري - «في طريقي إلى السفارة الأميركية كان سكان طهران يذهبون للسفارة للمشاركة ومتابعة أحداث احتجاز الرهائن الأميركيين، وفي خارج مبنى السفارة على الأرصفة كان ثمة أناس يبيعون تسجيلات الكاسيت لمواعظ الخميني، وبعض الفتيات اللاتي يرتدين «الشادور» يقدمن صورة الإمام الخميني وكتباً عن الإسلام والعدالة الثورية. بينما كانت هناك أخريات يرتدين البنطلونات الجينز ويبعن كتابات لينين وتروتسكي».
هكذا وصف «محمد حسنين هيكل» في كتابه «مدافع آية الله»، المشهد في طهران عند زيارته لها أثناء أزمة احتجاز الرهائن، بعد الثورة الإيرانية.
لم تبدأ قصة الثورة الإيرانية، منذ هذا الفصل أو حتى منذ سقوط نظام، بل بدأت إرهاصاتها مبكراً، ففي الستينيات من القرن الماضي، تصدى الفقهاء الإيرانيون ورجال الدين للقوانين التي أصدرها الشاه 1963 وسماها «الثورة البيضاء»، حيث رأوا فيها تكريساً لـ»تغريب هوية إيران»، واستغلوا المناسبات الدينية والوطنية من أجل التحريض على نظام الشاه.
وكان على رأس المحتجين آية الله الخميني، الذي حرض الشعب ضد علاقات الشاه بأميركا وإسرائيل، خاصة في «ثورة 15 خرداد» التي صادفت ذكرى كربلاء، وسانده في ذلك طلاب الحوزة العلمية بمدينة قم. وبذلك دخلت الحوزة العلمية بقيادة الخميني في صراع مع نظام الشاه حول علمنة القوانين، وتميز الخميني بالمواقف الأشد ثباتاً.
واندلعت تظاهرات قتل فيها آلاف الإيرانيين، وأودع الخميني في السجن، فاجتمع كبار المراجع الدينية، وأعلنوا ترقيته إلى رتبة «آية الله العظمى»، فاكتسب بذلك حصانة تمنع سجن المراجع الدينية، وتكرس بذلك دوره السياسي والديني والاجتماعي محامياً عن «حقوق المستضعفين»، ما بوأه مكانة مرموقة تزايدت أهميتها عبر السنين في الدفع بالاحتجاج الشعبية على نظام الشاه، حتى لحظة سقوطه الدرامي.
وفي العام 1964، أخرج نظام الشاه، الخميني من البلاد إلى تركيا التي غادرها فوراً إلى النجف في العراق حيث قضى هناك 14 سنة، ومنها توجه - بضغط من الشاه الإيراني على نظام حزب البعث العراقي- إلى فرنسا، وبقي فيها متابعاً وموجهاً لأحداث الثورة في بلاده خلال أشهرها الحاسمة، حتى سقوط النظام.
على كل حال، لم يدخل رجال الدين في إيران حلبة السياسة والتفاعل مع أزمات الشارع الإيراني، إلا في توقيت متأخر عن باقي التيارات السياسية، خصوصاً التيار اليساري، حيث تمتع رجال الدين بالعديد من المميزات التي حفظت لهم أحوالهم وسلطتهم الدينية، بل إن بعض رجال الدين رأوا أن التدخل في أمور السياسة ربما يجلب المفسدة.
بدأ رجال الدين يتحركون ضد السلطة الشاهنشية عندما لاح لهم خطر انتزاع المميزات التي توافرت لهم على طول تاريخ إيران، وذلك عندما قرر الشاه محمد بهلوي إجراء بعض التعديلات على دستور العام 1906 فيما عرف بالثورة البيضاء. وكانت تستهدف في الأساس كل من سلطة رجال الدين وتحييد اليساريين عبر احتواء الطبقة الوسطى إلى جانب الشاه من خلال العديد من السياسات الاقتصادية، مثل: ضمان حصول العمال على أرباح المصانع وتأميم العديد من المؤسسات، بما لا يجعل لدى اليساريين أي مبرر لدعوة الشارع إلى الانتفاضة ضد حكم الشاه. وكان من ضمن قرارات ثورة الشاه البيضاء أن سمح بإلغاء القسم على القرآن، وإعطاء النساء حق الترشح والتصويت، وكذلك إعادة تنظيم الصلاحيات الممنوحة لرجال الدين والمساجد، فيما رأى رجال الدين أن كل هذه الخطوات إنما تهدف إلى نزع أدوات السيطرة التاريخية التي استقرت لديهم.
وشكلت مجموعة من الحلقات مسلسل الثورة الإيرانية في أشهرها الأخيرة، بدءاً باغتيال «مصطفى» الابن البكر للخميني في النجف على أيدي «عملاء» لأمن الشاه، وخروج الآلاف من أنصار والده في المدن الإيرانية للمشاركة في تأبينه فرفعوا شعار «الموت للشاه». وقد وصف الخميني هذه التظاهرات بأنها «صحوة إيران». وفي أيلول 1978 أعلن الشاه بدء العمل بحالة الطوارئ، بينما تحدى المتظاهرون الإعلان، ما أدى لوقوع «مجزرة الجمعة السوداء»؛ إثر فتح النار من الطائرات المروحية على تظاهرة تضم نصف مليون مواطن إيراني، فحصدت 4500 شخص بينهم 650 امرأة. وهو ما أضاع كل فرص النقل السلمي للسلطة من الشاه إلى الشعب، وزاد زخم الاحتجاجات بشكل كبير.
حاول الخميني استمالة الجيش الإيراني أو على الأقل تحييده عن الصراع الدائر، وكان يقول لأنصاره عبر الكاسيت: «لا تهاجموا الجيش في صدره وإنما هاجموا قلبه واستهدفوا وجدانه، وإذا أراد الجيش أن يطلق النار عليكم فلتعروا صدوركم، فدماء كل شهيد ناقوس يوقظ ألفاً من الأحياء». وكان يسمي أفراد الجيش «جنود الله المستضعفين»، وهم جزء لا يتجزأ من الشعب رغم ارتدائهم الزي العسكري. وقد اتخذت قوى الثورة تدابير لحماية من ينشقون عن النظام من عناصر أمنه وجنود جيشه بتهريبهم من ثكناتهم، وتوفير ملابس مدنية لهم تمكنهم من الاختفاء.
مثل الخميني الشرعيات الثلاث، وهي: العلم والنضال والقيادة. وأهمية الخميني أنه لم يدع نجله أحمد يرثه، ولكنه أظهر ازدراء تجاه القضايا الاقتصادية، وأعلن ذات مرة أن «الاهتمام بالاقتصاد من سمات الحمير»، وتباهى بأن ثورته لم يكن الهدف منها تحقيق الرخاء، وإنما كانت فرصة لنيل الشهادة. كما وقع الخميني في فخ إبعاد آية الله حسين منتظري عن خلافته. فجاء بعده أضعف المؤهلين لخلافته وهو حجة الإسلام علي خامنئي. كان منتظري هو الأب الروحي الثاني للثورة الإيرانية بعد الخميني، وكان خليفة الخميني المحتمل، فهذا المرجع الشيعي الرئيسي، وقف بقوة ضد نظرائه من كبار رجال الدين والسياسة عندما اتهمهم بالتحول إلى الدكتاتورية باسم الإسلام، وكان يسعى إلى جعل رجال الدين خبراء وفقهاء يُستفتون ويُسألون، ولا يجب أن يكون لهم دور تنفيذي مباشر في إدارة شؤون الدولة، كما أنه واحد من رجال الدين الشيعة القلائل الذي يؤمنون بأن سلطة القائد الأعلى تأتي من الشعب وليس من الله، وانتقد بحدة موجة إعدام السجناء السياسيين التي نفذت بحق معارضين سياسيين في الثمانينيات. وخلال تلك الفترة بدأت السلطة الحاكمة في إيران بسحب صلاحيات منتظري تدريجياً.
كان قرب وفاة الخميني، ينذر بانهيار بناء الثورة الإيرانية، أو تصدعه في أحسن الأحوال، وفي ظل هذه الظروف، قام علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان حينذاك والمقرب من الخميني، إلى جانب نجل الخميني أحمد الخميني، بلعب دور كبير، إذ تحركا لإصلاح الدستور الذي كان يحصر حق ولاية الفقيه بين مراجع التقليد، لتكون النتيجة جلوس خامنئي الذي شكك كثيرون في مكانته الفقهية بمنصب الولي الفقيه.
دفع هاشمي رفسنجاني ثمن غلطته في إبعاد منتظري، وإفساح المجال لخامنئي لخلافة الخميني، فلم يأتِ هو المرشد من بعده، وبقي طوال خمسة وعشرين عاماً في صراع مكتوم مع خامنئي.
أمضى علي خامنئي، العقد الأول من سلطته في تثبيتها. بعدها بدأ في بناء مشروعه حتى لا يكون خليفة يعيش في ظل الخميني، وحوّل المشروع النووي الإيراني إلى مشروع إيراني قومي.
ويواجه المرشد اليوم تحدياً مصيرياً، وهو المصالحة مع واشنطن بكل ما تفرض المصالحة من شروط تضع نقطة نهاية للثورة الإيرانية، وكتابة فصل الدولة الإيرانية، تحت المظلة الدولية، في وقت عليه أن يهيئ لعملية تسلم وتسليم لموقع المرشد، من دون الانزلاق نحو «السورنة» أو الفوضى، وفي مواجهة مجتمع مدني شاب وغني بالطاقات والتجارب مثل المجتمع الإيراني.