عاطف ابو سيف - النجاح الإخباري - ارتبطت ممارسة السياسة دائماً بجدلية العلاقة بين الفرد والجماعة، وربما بالصراع الذي نتج دائماً عن صراع الأفراد فيما بينهم لتطوير جماعاتهم. ومن المؤكد أن التكوينات السياسية كانت نتيجة هذه الصراعات ونشوء الجماعات السياسية وبعد ذلك الدول ترجمة حقيقة للانتصارات الكبيرة التي تمت خلالها. وبالقدر الذي باتت فيه المجتمعات مجتمعات مشكّلة من جماعة كبيرة توسعت من الأسرة إلى العائلة الممتدة والقبيلة والقرية والمدينة، وبعد ذلك الدولة بالقدر الذي ترافق ذلك بتركيز أكثر على الفرد بوصفه أساس كل ذلك.

لقد ارتبط السعي والبحث عن الديمقراطية بالبحث عن حقوق الفرد وعن تأكيد الجماعة أنها ائتلاف مجموعة أفراد. ولم يكن يمكن تخيّل ما وصلته الدولة المعاصرة من نظم ديمقراطية بالشكل الذي نعرفه لولا البحث المتواصل عن الفرد بوصفه مركز الفعل البشري. وربما أن الدول غير الديمقراطية هي تلك الدول التي يطمس فيها الفرد وتغيب شخصيته ويكون التركيز فيها على الجماعة التي تختلف من سياق لآخر، ففي بعض السياقات هي العائلة الحاكمة وامتداداتها وتحالفاتها على الصعيد النسقي الخاص بكل تجمع بشري، وفي سياقات أخرى تكون على شكل الحزب الكبير الممتد والذي يكون عائلة من نوع آخر. وبين هذه وتلك ثمة سياقات كثيرة تكون الدولة ذاتها مركز امتدادها. وليس من شك في أن الفرد بوصفه أساس التجمع البشري في كل أشكاله هو الضحية الأساسية في كل هذا.

بدأت الحضارة بوجود الإنسان. وإحدى المغالطات الكبرى في التاريخ هو افتراض وجود الحضارة بما نعرف. فبقدر وجود وجاهة في هذا الادعاء الذي تأسس مع الزمن، فإنه ينفي عن حياة البشر أي ارتباط بما لا نعرف. وبالتالي فإن غير المكتشف لم يكن موجوداً في نسق حضاري متكامل. وعادة ما يتم إنتاج مثل هذه المقولات من باب الهيمنة والقوة، حيث إن القوى المتحكمة بإنتاج المعرفة وحدها من يقرر بداية الأشياء ونهايتها لأنها من تكتبها. وأحد أبرز الأمثلة الآلية التي تغيب فيها الكتابة والتمجيد اللائقين عن الحضارة الكنعانية في الكتابات الغربية من أجل تأكيد الرواية التوراتية المؤلفة عن وجود العبرانيين، وهذه قصة أخرى. ما أرمي إليه هنا أن افتراض أن التاريخ ارتبط بالحضارة لم يكن إلا من باب إيجاد نقطة بداية يمكن منها الانطلاق للتعبير عن تشكّل الجماعة. لذلك فالحضارة بدأت مع وجود الجماعة. والجماعة لم تتشكّل إلا بعد اتفاق الأفراد على تكوين مجتمعاتهم وهذا بدوره لم يحدث إلا بعد تآلفهم في تلك التكوينات. مرة أخرى، فإن هذا لم يحدث إلا نتيجة صراع. صراع الأفراد فيما بينهم وصراع مجموعات الأفراد المختلفة وفق أنساق أوسع فأوسع، وصولاً إلى تكوين المجتمع. فالحضارة بدأت مع الجماعة، ولم تبدأ مع الفرد. الوجود البشري بدأ مع الفرد لكن الحضارة تشكّلت مع تكوين الجماعة. لا ينفي هذا بأي حال من الأحوال أهمية الفرد.

وربما في عجلة اكتشاف معاكسة، فإن الحضارة لم تكتمل إلا بالعودة إلى الفرد. فمع اكتمال تشكّل المجتمعات الحديثة وما عانته تلك المجتمعات خلال مرحلة ما بعد التكوين، خاصة مع تمظهر الشكل الأبرز لتلك التجمعات والمتمثل بالدولة الحديثة أو قبل ذلك بالدولة المدنية عاد الصراع إلى الظهور مرة أخرى. وهذه المرة لم يكن بين الأفراد كأفراد، بل بينهم وبين الجماعة. الجماعة بما لها من سلطة. جرت مياه كثيرة قبل ذلك كان أبرزها وجود الدين سلطة لا أرضية يتم استخدامها من قبل القائمين عليها بغية تمرير هيمنة ونوفد هنا مثالين خاصين يتساوقان في الكثير من الأحيان مع سلطة الجماعة التي هي الجهة الحاكمة.

برزت بعد ذلك نظريات كثيرة أخذت العنوان العريض المعروف بـ"العقد الاجتماعي" حيث اختلف تفسير الفلاسفة لشكل المجتمعات: الأول بين عالَم هوبز حيث حرب الجميع ضد الجميع أو عالَم روسو حيث الاتفاق الطوعي بين البشر من أجل تأمين حياة الجماعة التي تشكّل مظلة حامية للجميع. وبالقدر الذي يمكن التسليم فيه بهذه الحتميات في التفسير بالقدر الذي يجب أن نلتفت أن المهم في كل هذا النقاش هو إعادة التركيز على الفرد الذي كان أساس كل هذا النقاش. وهذا الاسترجاع البحثي مرده التفكير في لحظة صراع الفرد من أجل تحصيل حقوقه المدنية وحقه بالمشاركة السياسية في وجه الدولة الحديثة. 

لم يكن للدولة الحديثة أن تنجح لولا انتصار الفرد عليها. وهذا الانتصار لم يكن صراع خسارة أو ربح بقدر ما كان صراعاً من أجل تحسين جودة الحكم نفسه. فالدولة التي لا يكون للفرد فيها صوت معبّر عن إرادة حرة لا يمكن أن تكون معبرة عن مجموع الإرادات الحرة التي تتشكل منها. وعليه ربما لا يمكن إطلاق مفهوم دولة على النظم التي يتم مصادرة إرادة الأفراد فيها. وعليه فجودة الحكم هي المعبّر الحقيقي عن وجوده. فمجرد وجود سلطة لا يعني بالضرورة أن الأفراد والمواطنين موجودون. وربما لم يعجب توكفيل بشيء في أميركا بالقرن التاسع عشر بقدر إعجابه بتلك التجمعات الصغيرة على مستوى النواحي التي تعبّر عن إرادة الأفراد في مؤلفه "الديمقراطية في أميركا".

ارتكاز السياسة على الفرد وتمظهر أشكال السلطة وفق نتيجة الصراع بين الأفراد وبينهم وبين مؤسسات السلطة الحاكمة شكّل دائماً نقطة لفهم طبيعة السياسة بوصفها قائمة على الصراع. لكنه الصراع النفعي الذي يسعي فيه الأفراد إلى تأمين مصالحهم. دون هذا الفهم لا توجد ديمقراطية يمكن الحديث عنها، ودون تكريم الفرد وما يرتبط به من تطلعات فردانية بكل ما قد تحمله هذه من أنانية تنتهي أمام القانون الناظم للجماعة، فإن العمل السياسي لا يعدو أن يكون شكلاً آخر من أشكال الغابة، وفي غابة السياسة المعاصرة فإن للدكتاتورية والتسلطية والقمع مليون شكل ضحيته الفرد.