برهوم جرايسي - النجاح الإخباري - الكلمة الأكثر تداولا في مقالات الإسرائيليين، في الأيام الأخيرة، في أعقاب إلغاء الأرجنتين مباراة كرة القدم مع المنتخب الإسرائيلي، كانت "العنجهية الإسرائيلية"، أو "الغطرسة"، إذ رأوا أن حكومتهم زاد لديها جنون العظمة، في ظل إدارة دونالد ترامب، من دون أن تلتفت إلى باقي العالم، وخاصة أوروبا. وهذا جاء في وقت ظهر فيه أحد أكبر جيوش العالم قوة، عاجزا أمام إبداعات المقاومة الشعبية الفلسطينية، التي نجحت في استئناف حضور القضية الفلسطينية، في أجندة الرأي العام العالمي.

وكان قرار الأرجنتين ثمرة حراك فلسطيني ناجح، تعزز أكثر بانعكاسات العدوان الإسرائيلي الدموي، والمجازر التي ارتكبتها لصد المقاومة الشعبية في قطاع غزة والضفة؛ إذ إن كل روايات الاحتلال ليبرر دمويته الإجرامية، والدعم المطلق من البيت الأبيض، لم يعف إسرائيل من المواجهة الدولية الأوسع. وهذه مؤشرات جيدة، في الحالة السوداوية التي تعيشها القضية الفلسطينية، وزادت حلكتها في العهد الترامبي.

فقد أدى قرار الأرجنتين، حقا، إلى حالة ارتباك في حكومة بنيامين نتنياهو؛ إذ جاء في وقت تسجل فيه الحكومة ورئيسها إنجازات سياسية متتالية، مصدرها البيت الأبيض. وظهر نتنياهو وفريقه، أكثر من ذي قبل، بخطاب ونهج عربدة، وكأنه بات يسيطر على العالم بذراع ترامب. وهذا انطباع كان واضحا في سلسلة من مقالات الكتّاب وصنّاع الرأي، الذين حذروا من أن حكومتهم اعتقدت أنها ملكت العالم بأسره، بسبب دعم ترامب وتياره لإسرائيل بشكل أعمى؛ من دون أن تعترف بحقيقة أن للعالم توجهات وأجندات ومصالح أخرى، ولم يغض الطرف عن القضية الفلسطينية؛ وشددوا على ضرورة أن تعرف حكومتهم حدودها.

وكما يبدو، ونقول هذا بحذر، إن نتنياهو لمس خلال جولته في الأيام الأخيرة في أوروبا فتورا، وإلى حد ما نفورا، من السياسات الإسرائيلية، بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وأيضا في ما يخص الاتفاق الدولي مع إيران.

هذا الجدل العاصف في الساحة الإسرائيلية، جاء في أوج الجدل حول كيفية صد المقاومة الشعبية الفلسطينية، التي حطّمت أوهاما إسرائيلية، بأن قوتها العسكرية المتعاظمة، من جهة، والفريق المتصهين في البيت الأبيض من جهة أخرى، من شأنهما أن يقضيا على القضية الفلسطينية، ولذا نسمع أنهما يعدان تلك الطبخة الفاسدة، المسماة "صفقة القرن".

فالمقاومة الشعبية في قطاع غزة، وما شهدناه على مر السنين في الضفة الغربية، نجحت في وضع حد لغطرسة الاحتلال العسكرية، رغم ثمن الدم الباهظ الذي يدفعه الفلسطينيون. فقد يعتقد البعض أنه من المبالغة القول، إن إسرائيل جُنّ جنونها من مسألة الطائرات الورقية، التي يتم إطلاقها من قطاع غزة، في مسيرات العودة، وتحمل في ذيولها قطعا مشتعلة، قالت إسرائيل إنها تسببت في حرق آلاف الدونمات في تلك الأرض الصحراوية.

ومن المثير للسخرية، أن جيشا تبلغ ميزانيته المباشرة السنوية، حتى 18 مليار دولار، عدا باقي نواحي الصرف على العسكرة، يبحث عن وسائل لوقف وابل الطائرات الورقية. جيش يتفاخر بكونه يملك أكبر عدد من الطائرات الأميركية الأكثر تطورا، إف 35، ينشغل بهذا القدر بالطائرات الورقية. وتصل السخرية ذروة، حينما يصدر بيان رسمي عن الناطق العسكري يعلن فيه "إسقاط" 400 طائرة ورقية من أصل 600 طائرة، فأمر كهذا، فيه ضرب للمعنويات، ضرب لأجواء الغطرسة التي طغت أيضا على الشارع الإسرائيلي، وليس فقط على سدة الحكم وجيشها.

وقد شهدنا على مر السنين، أن لا حدود لإبداعات المقاومة الشعبية الفلسطينية لإرباك الاحتلال، وبالإمكان الجزم، بأن في كل واحدة من جولات المقاومة الشعبية، خرج فيها الاحتلال خاسرا، بالأساس معنويا، لأنه بات يعي أكثر من ذي قبل، أنه لا يمكن الاستمرار أكثر، وأن المستقبل ليس في صالحه، لذا تكثر مجددا، الأصوات التي تبحث عن حل، حتى وإن الحلول المطروحة في غالبيتها الساحقة، لا تخرج على قاعدة خنق الشعب الفلسطيني في بقع جغرافية صغيرة محاصرة غير متواصلة، ولكن في صلب هذا اعتراف ضمني بعدم إمكانية استمرار "السيطرة على شعب آخر"، حسب تعبيرهم.

ويخسر الاحتلال أيضا على مستوى الرأي العام العالمي، وهذه حلبة مهمة للإسرائيليين، لأنهم يلمسون هذا على جلدهم حينما يخرجون إلى العالم، ويشعرون في أماكن كثيرة، أنهم ليسوا مرغوبا فيهم، بسبب سياسات حُكمهم.