اكرم عطا الله - النجاح الإخباري - يتمنى الفلسطينيون، الذين شاء حظهم العاثر أن يكونوا من سكان قطاع غزة، أن تمحي السنوات العشر الأخيرة من ذاكرتهم؛ لأن الألم الذي فاض من اليابسة على البحر أكبر كثيراً من أن يحتمله بشر من إذلال ومعاناة أفقدت الناس كرامتها وما كان قد تبقى من كبريائها.. إنهم بقايا بشر شاءت أقدارهم أن يتواجدوا صدفة في منطقة اشتباك الجميع ضد الجميع فمزقتهم عشوائيات السياسة بلا رحمة.
غزة تنزف دماً وقهراً وذلاً وإهانة وأنيناً خافتاً من شدة الوجع، فقد بكى الرجال في غزة ولم يبق للإنسانية لون ولا طعم ولا رائحة في هذه المنطقة، التي تمنى الجميع أن تغرق في البحر وانضم أهلها إلى هذه الأمنية؛ لأنهم لن يخسروا سوى المذلة ولكن البحر الأصم أكثر غباء من الاستجابة لأمنيتهم.
عاد الفلسطينيون من مصر بعد الفتح الأخير للمعبر، والذي تم بعد أكثر من خمسة أشهر على الإغلاق وأكثر من خمسين وعداً على امتداد العام الماضي بفتحه وتسهيل الإجراءات. عادوا محطمين وبائسين لأن الرحلة كانت أكثر إيلاماً من رحلة المسيح نحو الخشبة، لا أحد مثلهم؛ لأن للجميع أوطاناً وقيادات مسؤولة عن رعاياها إلا هم وخصوصاً الغزيين، الذين لا يعرفون سوى أنهم أصبحوا رهينة ضد الجميع في عملية اختطاف واضح أنها لن تنتهي سريعاً.
عاد كل منهم مثقلاً بروايات سفر هي بالنسبة للعالم أجواء سياحية، أما بالنسبة لهم فهي عملية أشغال شاقة كيف؟ ولماذا؟ لا أحد لديه إجابة سوى وعود بانفراجات لم تتوقف الوفود الذاهبة للقاهرة عن نثرها، وما بين الوعود والواقع مسافة هائلة تماماً تشبه المسافة بين العرب وحقوق الإنسان.
لكل للمدينة الساحلية نصيبها من الحزن، فالتاريخ تجسد على السواحل، حيث دارت معاركه؛ لأن جميعها على طريق سفن القرصنة، تلك كانت مأساتها، ومن هنا تجسدت التراجيديا القديمة على سواحل اليونان؛ لأن مدنها على الشواطئ، وتلك أيضاً كانت مأساة مدن السواحل في فلسطين والتي احتلها الغازي منافياً لحملة الأساطير المؤسسة، فأحداث التوراة وفقاً لنصوصها تشير إلى أنها كانت في مدن الداخل. فلماذا سارع باحتلال الساحل؟ ولم تبق سوى غزة تطل على البحر ومن هنا كان قدرها أن تعيد بعث الحركة الوطنية بكل الثمن المرافق للتراجيديا.
قبل عشر سنوات تجسدت المأساة عندما قرر الهواة القيام بمغامرة خلت من كل حسابات السياسة، حيث قامت حركة «حماس» بطرد السلطة من غزة لتنقطع كل الشرايين المغذية وتتسبب في حصارها وتدخل غزة في حالة موت سريري، لم يتصور أحد أن يمتد كل هذه السنوات.. حينها أغلقت المعابر وتوقفت السلطة عن تقديم تسهيلات يتطلبها وجودها، فكيف ستقدّم خدمة لمنطقة تم طردها منها؟ ومن يعتقد ذلك فهو مخطئ، بل أصبح لها مصلحة بتحويل الحياة إلى جحيم، وهذا ما حدث والأزمة أن حركة «حماس» على امتداد السنوات الماضية تتصرف وتتحدث كأنها غير مسؤولة عما حدث ويحدث، كأنها خالية طرف، وأحياناً تتصرف كضحية في مشهد يستحق التأمل حقاً ولم تشعر بحجم المأساة التي تسببت بها والأفدح أنها تطالب الآخرين بالبحث عن حل.
السلطة تعاملت بردة فعل لم تأخذ بعين الاعتبار براءتنا مما حدث ولسنا نحن من هُزم في معركة السيطرة على غزة، لكن بغض النظر عن ذلك فنحن بكل الظروف رعايا منظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت تقدم لنا الخدمات حتى عندما كانت في تونس وكنا تحت الاحتلال الإسرائيلي المباشر، قبل أن يتحول إلى غير مباشر ومريحاً لإسرائيل، وهكذا وقع سكان القطاع بين صراع لا ذنب لهم فيه سوى أنهم وجدوا أنفسهم متفرجين على مسرحية «الدم والكراهية».
وهنا كان لا بد لدولة كبيرة مثل مصر، مثلت لها غزة عبر التاريخ مصلحة كبيرة ومدخل غزواتها، أن تأخذ بهؤلاء المساكين بعيداً عن صراعات الأخوة الألداء التي لن تكتب لها نهاية، أن تتصرف بما ينسجم مع حجم الدولة وتاريخها وعمق مسؤوليتها القومية باعتبارها دولة المركز، بعيداً عن مناكفات الفلسطينيين بل وأيضاً بما ينسجم مع المصلحة المصرية نفسها، فالأمر ليس له علاقة بخصومتها مع أطراف الصراع الفلسطيني؛ لأنها باتت تستقبل وفود حركة «حماس» بكل احترام، لكن للمواطن العائد مساراً آخر من المعاناة.
كيف تقبل مصر أن يعود الغزيون بعد رحلة طويلة محملين بالدمع والانكسار من الحواجز.. فالدول تفتح حدودها للزائرين ليتحولوا إلى سفراء مديح وعناصر دعاية لها، وبين غزة ومصر تاريخ من الدم الممزوج فقد دفعت مصر في غزة ما لم يدفعه أي جيش حارب مع الفلسطينيين، ومنطق الأشياء أن تبقى القاهرة حاضنة لسكانها لا طاردة.. فما الذي يحدث؟
 غزة في الجغرافيا هامش ولكنها في السياسة مركز، ومخطئ من لا يعرف ذلك، هكذا تبلور التاريخ الفلسطيني الحديث، وغزة تعطي للدول مكانة وقوة ناعمة.. هكذا كانت مصر وهكذا أخذت قطر جزءاً من قوتها الناعمة لعلاقتها بغزة.. فكيف لمصر أن تتراجع وتعطي لغيرها أن يعبئ فراغها؟ كيف لها أن تقبل أن يعود الغزيون محملين بذكرى سفر صعب ومعبر مغلق لأشهر دون انتباه أن هذا يأكل من الرصيد المصري الذي تجسد بفعل التاريخ.
لماذا يبيت الناس داخل المعبر عندما يفتح متباعداً؟ وهنا نتحدث عن ألف مسافر وليس آلاف كما يحدث على جسر الأردن، فهناك على الجسر يكون الآلاف قد عبروا قبل الثانية عشر ظهراً وهذا منطق الأشياء، أما عبور ألف يستغرق كل هذه الساعات حتى ساعة متأخرة من الليل، فهناك خلل ينبغي معالجته حفاظاً على آدمية الإنسان، ومصر لها المصلحة الأكبر في تقديم خدمة أفضل لهؤلاء الغزيون الذين خرجوا بتظاهرة تأييد كبيرة لمصر قبل أسابيع فقط، وهذا لا يحدث في أي مدينة عربية.. على مصر أن ترى جيداً.
المقارنة الصعبة التي عقدها رئيس تحرير وكالة معاً ناصر اللحام، بين تعامل الأردن مع الضفة وتعامل مصر مع غزة.. يفترض أن تضيء كل الأضواء الحمر في القاهرة؛ لتعيد النظر بسياستها تجاه غزة، وقد كتب الزميل طارق حسن قبل فترة مقالاً بعنوان «هجوم مدني مصري على غزة»، ربما كان يشير إلى ضرورات المصلحة المصرية التي تجد لها تربة خصبة بغزة، ولكن ما يحدث غير ذلك.
هناك حديث عن فتح المعبر بعد عيد الأضحى، يندرج في إطار الوعودات التي لم تعد تصدق لكثرة ما انتشر منها، حركة «حماس» تتحدث عن انفراجة، والسلطة تقول: إنه لا فتح للمعبر إلا بوجودها.. وبين هذا وذاك تحتفظ مصر بالصمت ولم تنشر أي شيء رسمي حتى الآن، وهذا يثير الشك في كل ما قيل عن الانفراجات .. هناك حل وسط لا أحد يتوقع فتحاً كاملاً للمعبر بغياب السلطة، لكن ليس إلى حد الاختناق الحاصل، وتلك مصلحة مصرية لأن مصر يجب أن تستمر بتواجدها إلى جانب الفلسطينيين.. هكذا كانت عبر التاريخ بعلاقة عاطفية لا يجوز لدولة غيرها أن تنافسها... على مصر أن تنتبه..!