نعيم الاشهب - النجاح الإخباري - كان تركيب قوات الاحتلال الاسرائيلي للبوابات الالكترونية على مداخل المسجد الأقصى ، بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير - كما يقال - وتتويجا لمسلسل من الاجراءات الاحتلالية حول المسجد الأقصى ، بدأت منذ اليوم الأول للاحتلال ، وعرفت تطورا نوعيًا منذ اقتحام شارون لساحة هذا المسجد عام ٢٠٠٠ . فكان تركيب هذه البوابات كافيا لتفجير مخزون الغضب الشعبي المتراكم .

وقد سجلت هذه الهبة الشعبية لسكان القدس العربية ، والتي سرعان ما امتدت الى الضفة والقطاع، عددا من المؤشرات ذات المغزى العميق ، الايجابي منه والسلبي ، التي تستحق وتستوجب الرصد والتمعن ، لاستخلاص العبر منها، في معركة شعبنا الطويلة والمريرة مع الاحتلال :

أولا - الوحدة الوطنية الرائعة التي تجلّت في نشاطات هذه الهبة الشجاعة ، هذه الوحدة التي تجاوزت وتجاهلت الانقسام ومظاهره، الذي تتحمل كل من حماس وفتح مسؤولية وقوعه واستمراره ، وحدة مسلمين ومسيحيين، نساءً ورجالا، شيوخا وأطفالا ، صهرتها نار المعركة ، وعمّدتها دماء شهدائنا وجرحانا الزكية أيام هذه الهبة الباسلة.

ثانيا - ما أكدته هذه الهبة ، بأن شعبنا الأعزل ، قادر ومؤهل ، بوحدته أن يتصدى لقوى الاحتلال المدججة بالسلاح حتى الأسنان، وارغامها على التراجع . وقد شهد العالم كله نتنياهو وهو يؤكد إصراره على ابقاء الأبواب الألكترونية ثم يتراجع علنا أمام ارادة شعبنا الصلبة . وهذا الدرس البليغ موجه ، في الأساس، للمراهنين على المفاوضات العبثية بالرعاية الأميركية، والذين يخشون ، في الوقت ذاته ، أي حراك لشعبنا الفلسطيني يمكن له أن يغضب المحتل وحلفاءه الإقليميين والدوليين.

ثالثا- أن هذه الهبة أكدت من جديد، أن نضال شعبنا ضد المحتل هو وحده القادر على تحريك التضامن مع قضيتنا العادلة. فقد فرضت هذه الهبة اعادة القضية الفلسطينية الى أجندة القوى السياسية ، أصدقاء واعداء على حد سواء، وترددت أصداؤها اقليميا وعالميا ، ساعة بساعة.

رابعا - أن هذه الهبة كشفت مستوى الغربة بين السلطة الفلسطينية ونبض الشارع الفلسطيني . وقد بدا جليا أن هذه الهبة أربكت السلطة الى حد ، أن أقصى ما أعلنته ، بعد أكثر من أسبوع على اندلاع الهبة ، هو"تعليق" وليس الغاء أو قطع الاتصالات مع المحتل ، وبخاصة التنسيق الأمني . وقد أثار هذا الاعلان سخرية حتى الاعلام الاسرائيلي ، الذي شكك في قدرة السلطة الفلسطينية على تنفيذه فعليا، وكل ذلك بدل أن تتصدى السلطة لقيادة هذه الهبة وتنظيمها. وقد انعكس هذا الموقف من الهبة في مواقف الطرفين الاسرائيلي والأميركي اللذين كانا يرددان علنا بأن عنوانهم لمعالجة هذه الهبة هو الأردن ومصر، مع تجاهل كامل للسطة الفلسطينية .

خامسا - أن صورة القدس ، كما أضاءها لهيب هذه الهبة من جديد ، كشفت بشكل لا يحتمل التأويل أن "وحدة" القدس تحت السيادة الاسرائيلية هي مجرد وهم خادع في عقول المحتلين ، وأن القدس لم تكن مقسمة كما هي اليوم ، وأن خطوط التمايز بين شقيها، التي سعى ويسعى المحتلون ،عبثا، لطمسها وتجاهلها، تفقأ العيون.

سادسا - أن هذه الهبة ، رغم محدوديتها الزمنية ، كانت كافية لتسليط الضوء على المدى الذي بلغته عملية الفرز في الساحة العربية بين معسكر الشعوب العربية ، نصير الشعب الفلسطيني والمعادي لاسرائيل والامبريالية الأميركية ، وبين معسكر النظام العربي بقيادة السعودية الذي يقف عمليا في الطرف الآخر؛ أذ بينما هبّ حتى الشعب اليمني المنغمس كليا في معركة صد العدوان السعودي للتظاهر تضامنا مع هبة شعبنا ،فان النظام العربي ليس فقط لم يحرك ساكنا ، بل ان حكام السعودية خرجوا يبررون وضع الاحتلال الاسرائيلي للبوابات الالكترونية على مداخل الأقصى.

سابعا - أن هذه الهبة الشجاعة التي أرغمت المحتل الاسرائيلي على التراجع وإلغاء اجراءاته الأخيرة حول الأقصى، مثلت انجازا هاما تخطى في أبعاده المعنوية الأقصى وحتى القدس العربية ، وكان من الممكن ، كما بدا جليا على المزاج الشعبي العام، تطوير هذه الهبة لتحقيق المزيد من المكاسب الوطنية ، لولا تدخل بعض الأوساط المحلية والعربية التي تخشى مواصلة وتصعيد المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي وتفضل سبيل مفاوضته العقيمة ، دون دعم من الفعل الجماهيري.

ولكن برغم ذلك ، فان ما حققته هذه الهبة الجريئة جدّد المخزون الثوري في أوساط شعبنا ، ليتجلى في المعارك القادمة.