خالد الحروب - النجاح الإخباري - انتفاضة القدس العارمة والمتواصلة التي أجبرت إسرائيل على التراجع عن اتخاذ إجراءات أمنية إضافية ضد الفلسطينين ومقدساتهم، فاجأت القادة الإسرائيليين في المقام الأول، كما فاجأت القيادات الفلسطينية في رام الله وغزة، وقدمت دروساً بالغة العمق والأهمية. الدرس الأول هو مركزية المقاومة الشعبية وفاعليتها المُدهشة في المرحلة الراهنة من النضال الفلسطيني. في مرحلة أوسلو وما تلاها (بخاصة خلال وبعد الإنتفاضة الثانية من عام 2000 إلى 2005) تم إخراج االشعب الفلسطيني وأي فعل شعبي مؤثر من ميداني السياسة والمقاومة معاً. تمت خصخصة السياسة واحتكارها من قبل سلطة أوسلو التي انخرطت في مشروع مفاوضات لا نهائي دمغه كبير متحدثيها ومفاوضيها بعنوان سوريالي هو «الحياة مفاوضات». كما تمت عسكرة المقاومة أولاً ثم خصخصتها واحتكارها من قبل «حماس»، التي انكفأت ومقاومتها على مشروعها الحزبي بعد السيطرة العسكرية على قطاع غزة سنة 2007، فاختلطت مقاومتها بسلطتها هناك، فترسملت بعدما كانت قد احتكرت. في الحالتين وجدت غالبية الفلسطينين نفسها في غربة عن المشروعين المُحتكرين: المشروع السياسي المتمثل في سلطة أوسلو وهو الذي تآكلت أية شعبية أولية له بعد وضوح فشل المغامرة برمتها، وتحويل إسرائيل السلطة إلى مجرد أداة أمنية تخدم الكولونيالية الإسرائيلية الاستيطانية أولاً وأخيراً. أنف الفلسطينيون من السياسة المُنتجة من أوسلو وسلطتها وابتعدوا منها، وانتهوا مُحيدين ومعهم أي فعل شعبي حقيقي إما طوعاً أو كرهاً. المشروع المقاوم (المسلح) الذي مثلته وقادته «حماس» قاد أيضاً إلى تحييد غالبية الفلسطينيين، سواء بسبب عمليات «حماس» الإنتحارية في المرحلة الأولى، أو تحولها إلى أنماط عسكرية وصاروخية أخرى في مراحل لاحقة. في كل هذه المراحل لم يكن للناس العاديين أي مجال للمشاركة في مثل هذا النوع من المقاومة المسلحة، فضلا عن التخوف المتوقع، وبالتالي تم إخراج غالبية الفلسطينين من ميدان «المقاومة» كما كانوا قد أخرجوا من ميدان السياسة. وفي الحالتين السياسية والمقاومية تسيّد الوضع الفلسطيني من ناحية عملية الوضع الجبروت والغطرسة الإسرائيلية (الأميركية) سواء سياسياً ضد سلطة أوسلو أو عسكرياً ضد مقاومة «حماس»، وذلك في سياق ميزان قوى تقليدي كان يحسم الصراعات السياسية والمعارك العسكرية سلفاً.

لا يكسر أي ميزان قوى تقليدي سوى اجتراح قوى غير تقليدية وفرضها على الصراع، وأهمها في الحالة الفلسطينية قوة المقاومة الشعبية ضد سياقات الاحتلال العسكري الاستيطاني كالإسرائيلي. خبر الفلسطينيون هذه القوة البالغة التأثير في الانتفاضة الأولى بين 1987 و1992 والتي كان أثرها مدوياً، كما كانوا قد خبروها في النصف الأول من القرن العشرين في ثوراتهم ضد البريطانيين والمشروع الصهيوني معاً، سواء في ثورات عقد العشرينات أو ثورة 1936. في كل مرة تدخل فيها السياسيون في هذه الثورات، بهدف «التهدئة»، أو كاستجابة ساذجة لوعود من القوى المحتلة، أو لاستعجال قطف ثمار غير ناضجة، أو لامتطاء موجات الانتفاضات الشعبية كقيادات تخشى مواقعها من صعود قيادات ميدانية بديلة، في كل هذه الحالات كانت الانتفاضات تُجهض. وفي كل مرة كان يدخل السلاح بقوة على العمل الشعبي لأهداف متعددة أيضاً أو في شكل يستعجل الثمار، أو سقوطاً في إغواء السلاح ذاته، كان الثمن الباهظ هو خروج الناس من المقاومة واقتصارها على مجموعات مبعثرة من المقاومين المسلحين الذين سرعان ما تتم محاصرتهم والسيطرة على مقاومتهم عسكريا، أو توظيفها سياسياً.

انتفاضة القدس تعيد تدوير الدرس التاريخي للفلسطينيين مرة أخرى: المقاومة الشعبية تشل ميزان القوى العسكري التقليدي، وإستدامة عشرات آلاف الناس في الشوارع تجمد الرصاص سواء في سلاح المُحتل أو سلاح المُستبد الذي بات مكشوفاً في الوقت الحالي تحت آلاف الكاميرات التي تنقل الحدث حياً وعلى الهواء. مقدسياً إذاً، غابت القيادات السياسية الحزبية الفلسطينية والسلطوية عن المشهد فلم يكن هناك مجال للمساومات السياسية وممارسة احتكار السياسة كما هو الديدن خلال ربع قرن من المفاوضات والسلطة العقيمة، بما يؤدي إلى إقالة الناس إلى بيوتهم تحت مخدر أن القيادة تقوم بالواجب. كما غابت القيادات «المقاومية» ومعها أنماط المقاومة الانتحارية التي قد تؤذي فرداً من أفراد العدو هنا أو هناك، لكنها توفر له المسوغ لإطلاق وحشه العسكري والقمعي بلا حدود، وكان لغياب محتكري السياسة ومحتكري المقاومة الأثر الكبير في بقاء الناس في الشوارع وفي تجميد الوحش العسكري وشل قدرته.

وهكذا، فإن جانباً مريراً من المفارقة الكبرى في الانتصار المقدسي الراهن على إسرائيل يكمن في غياب القيادات السياسية السلطوية الرسمية، والقيادات المقاومية «الرسمية»: القدس التي لا تخضع لسلطة رام الله ولا تخضع لسلطة غزة هي التي تنتفض شعبياً وتجبر العدو على التراجع. الفلسطينيون الخاضعون لسلطة رام الله ولسلطة غزة لا يستطيعون الانتفاض شعبياً لأن قيادات المكانين احتكرت السياسة والمقاومة، واخرجت الفلسطينيين ومقاومتهم الشعبية من قلب الحراك والنضال ضد المحتل.

الدرس الثاني العميق والذي لا يقل أهمية هو بروز وفعالية ما يمكن وصفه بـ «التدين الوطني» المختلف تماماً عن «التدين الرسمي» المتكلف من قبل السلطات، أو «التدين الحزبي الحركي» المُحتكر من قبل معارضي السلطات. التدين الوطني يتسم بالتعايش والتسامح العفويين من دون تنظير أو تعصب أو إقصاء أو أحكام مُسبقة، وهو ما عهده الناس في أنفسهم عبر قرون طويلة وقبل حلول أنواع الأسلمة السياسية وتمزيقها المجتمعات وثقافاتها. التدين الوطني هو التدين الشعبي الذي ينطلق عند الحاجة من قلب الناس للدفاع عن حقوقهم المنتهكة، وليس لانتهاكها. وفرادة التدين الوطني وفاعليته تتبديان في أن الدين يُوظف من قبل الناس لخدمة الناس، على عكس الشائع حيث يُوظف الدين لخدمة السلطة أو أيديولوجيتها أو لخدمة من يعارضونها وأحزابهم وأيديولوجياتهم. بل يمكن القول بأن كل التوظيفات المختلفة للدين، مع عدا توظيفه من قبل الناس لخدمة الناس، تقع تحت العنوان العريض لـ «الإسلام السياسي»، وهذا الأخير هو السمة الأبرز لاستخدامات الدين سواء من قبل الأنظمة أو معارضيها أو أصحاب الأدلجة الشمولية. وأهم تمثلات «التدين الوطني» هو عدم تعقد وتعقيد مكوّنه الديني، مقابل عمق وترسخ بعده الوطني. في حالة انتفاضة القدس والأقصى تجسد التدين الوطني في صور مُذهلة أهمها الاندفاعات الشعبية المتواصلة التي تحلقت حول الحرم القدسي باعتباره رمزاً وطنياً جسد عدالة قضية فلسطين، وكشف عن ديمومة النضال لأجل تلك العدالة وسط الأجيال الشابة العريضة التي راهنت إسرائيل على أنها نسيت القضية وعدالتها. تجسد التدين الوطني في آلاف الشباب غير المتدينين الذين التحقوا بالصلوات الخمس وهم في سراويل جينز ممزقة، وبعضهم بقصات «شعر المارينز»، وبعضهم لا يعرف كيف يصلي أصلاً، وذلك كله في تعبير وطني لا يحدث إلا بعيداً من سماجات القيادات الرسمية أو التدين المتعصب الذي لا يقبل هؤلاء الشباب في صفوفه. بل أكثر من ذلك تجسد التدين الوطني مقدسياً في التحاق مسيحيين بصفوف الصلاة المقدسية يقفون كتفاً بكتف إلى جانب مقدسيين آخرين تصورهم الكاميرات، وتقلع بصورهم تلك عين السلاح الإسرائيلي الذي وقف مشلولاً أمام الإرادة الجماعية. حدث ذلك بعيداً من مماحكات التوظيف السياسي لزعامات لم تجرؤ أن تطأ الأقصى خشية أن تُلفظ من قبل الناس العاديين، وحدث بعيداً من مزايدات التديّن «الحمساوي» الحزبي الذي ما كان ليسمح بعفوية التديّن الوطني أن تفيض كما فاضت. درسا القدس العميقان: المقاومة الشعبية والتديّن الوطني يجب أن يبقيا بوصلة العمل الفلسطيني في المرحلة الحالية.

* كاتب وأكاديمي عربي

الحياة اللندنية