احمد قريع - النجاح الإخباري - غداة قيام سلطات الاحتلال الاسرائيلي بنصب بواباتها الالكترونية على مداخل المسجد الاقصى، ووضعت في واقع الأمر يدها الجشعة الثقيلة على أول قبلة للمسلمين، نشرتُ من على هذا المنبر الفلسطيني، تحذيراً مباشراً، قلت فيه، أن الاقصى ليس كأي مكان أو معلم في هذه الأرض المبتلاة بالاحتلال والاستيطان والاحقاد، وان المس به هو تحد سافر لمشاعر أسلامية كامنة لدى مئات ملايين المؤمنين في طول البلاد الممتدة من المغرب الى اندونيسيا، وان هذا هو لعب بالنار، التي قد تنطلق شرارتها من رحاب أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، لتحرق هشيماً قابلاً للاشتعال بسرعة قياسية في عموم هذه المنطقة، التي تشبه برميلاً من البارود.

قلت ذلك وانا أعي تماماً خطر الانزلاق الى ما لا تحمد عقباه، اذا ما تحول الصراع التاريخي المديد في بلادنا هذه، من طابعه الراهن كنزاع سياسي، الى حرب دينية لا تبقي ولا تذر، تخرج عن نطاق السيطرة، تغذي نفسها بنفسها، تحرق الاخضر واليابس، ولا محل فيها لأي تسويات متوازنة او حلول وسط محتملة، لا سيما في هذه الآونة الشرق أوسطية المفخخة بانقسامات مذهبية لا سابق لها، ورايات سوداء طافحة بمشاعر الكراهية والانتقام، وايديولوجيات متطرفة، ترفع شعار المظلوميات، وتبتهل في المحراب المقدس، وتنهل من رحم التهميش والنبذ والاقصاء، وتستمد من اطالة امد الصراع العربي الاسرائيلي مشروعية عنفها المفرط، كلما استطاعت الى ذلك سبيلاً.

طوال نحو اسبوعين حافلين بكل ما يبعث في النفس من مشاعر قلق وحيرة وغضب، ازاء هذا الجنون الذي تلبس الحالة السياسية الاسرائيلية، الذاهبة من تطرف شديد الى تطرف اشد، كنت اسأل تجربتي الطويلة، واحاكم خبراتي ومعرفتي المتراكمة بالعقلية التي كان اول احتكاك لي بها في اوسلو، عما اذا كان أمام اسرائيل بدائل اخرى، اكثر تنكراً للواقع، واشد افراطاً من ذي قبل في سعيها للي عنق الحقائق، واعمق رغبة من أي وقت مضى في مصادرة أبسط الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة، بما في ذلك ارضهم ومقدساتهم وحياتهم بكرامة؟.

فهذا الذي يحدث في القدس عموماً، وفي المسجد الأقصى خصوصاً، وهو ما بدأ بالاقتحامات اليومية لقطعان المستوطنين، ليصل الآن الى نصب البوابات الالكترونية، على الطريق الى تقسيم كما جرى في الحرم الابراهيمي في الخليل، وغداً ربما الى وضع حجر اساس لكنيس يهودي جري اختيار مكانه في ساحة الاقصى بالفعل، يعبر في مجموعه عن عقلية غير سوية، حتى لا نقول عقلية مريضة، وعن نهج استفزازي قوامه حق القوة بدلاً من قوة الحق، وشريعة الغاب التي يأكل فيها القوي الضعيف بلا تردد، وهو نهج مدمر حتى لأصحابه ولو بعد حين طويل، اولئك المتعصبون الذين لا يدركون اي منزلق تجرنا اليه سياسة منع المصلين من التعبد في الاقصى، وتغيير الواقع القائم فيه منذ الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام 1967، تمهيدا لتهويده تدريجياً، ومن ثمة بناء الهيكل الثالث مكانه كما يخططون.

ولا أحسب أن نصب البوابات الالكترونية وكاميرات المراقبة التي اهتبلت الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة اقامتها بذريعة عملية عسكرية لم يتحمل مسؤوليتها أحد، عمل ارتجالي طائش قامت به حكومة بنيامين نتنياهو تحت نوبة هلع سياسية مفاجئة، أو أنه كان تدبيراً مؤقتاً املته ظروف امنية طارئة، وانما كان تعبيراً عن نزعة متطرفة قديمة كامنة في الذهنية الاسرائيلية الاستعمارية التوسعية، لفرض مزيد من التحكم والسيطرة على القدس، خاصة على المسجد الاقصى، الذي ظل بمثابة الشوكة في حلق المحتلين، والعقبة الكأداء التي تحول دون تهويد المدينة المقدسة، واستكمال عملية أسرلتها بالكامل، كون هذا المسجد هو الجدار الأخير للدفاع عن عروبة القدس الخالدة واسلاميتها الابدية.

اذ بحسب كل الشواهد والأدلة القطعية، نحن اليوم أمام مرحلة جديدة من الصراع التاريخي المتواصل منذ نحو قرن مضى، وان اي مقاربة حصيفة لنقطة انطلاق هذه المرحلة المفتوحة على اشد الاحتمالات خطورة، قد يخلص اليها المؤرخون فيما بعد، سوف تشخّص بداياتها المبكرة، وتحدد ارهاصاتها الاولية، من عند هذه المحاولة الاسرائيلية الآثمة لمنع المصلين من الدخول الى المسجد الأقصى في واقع الامر، وان هذه المحاولة غير المسبوقة هي التي صبت الزيت على النار، وعبثت بالمقدس برعونة بالغة، اعتقاداً منها ان الظرف الموضوعي قد اصبح ملائماً لتنفيذ المخطط الرامي الى فرض أمر واقع لا رجعة عنه، ووضع جميع المعنيين امام حقيقة استيطانية نهائية، على قاعدة رضي من رضى وابى من ابى.

ويبدو ان حكومة اليمين الاسرائيلي المتغطرس قد استمدت جرعة ثقة زائدة عن الحد، حين رأت الأوضاع الذاتية الفلسطينية والعربية في اسوأ حالاتها، تحجبها حروب إقليمية عن اجندة الاهتمامات وأولويتها، وشاهدت بأم عينها كل هذه الانهيارات المدوية في العالم العربي، وقرأت متغيرات المشهد الدولي على نحو مشجع، يتيح لها التصرف دون التفات لأي ردود محتملة، او الاهتمام بما قد يصدر، من هنا او من هناك، من بيانات شجب واستنكار لا رصيد لها، طالما انها تشعر بأن لديها حصانة مؤكدة، فائض قوة غير محدودة، وانها فوق ذلك محمية سياسياً ودبلوماسياً بصورة تلقائية من جانب الولايات المتحدة الامريكية الدولة العظمى ، حتى وان ارتكبت اشد الفظائع والاعمال الوحشية.

غير أن من الواضح تماماً ان السلطة القائمة بالاحتلال دون رادع، لم تحسب جيداً حساب اهل الارض، ولم تأخذ بعين الاعتبار ردود افعال المقدسيين خاصة، والفلسطينيين عامة، عندما تجرأت على اجتياز الخط الاحمر، او قل عندما مست المسجد الاقصى المبارك برعونة، بكل ما يعنيه هذا المسجد من رمزية دينية، وما يمثله في وجدان الملايين من قداسة، وهو الامر الذي تجلى خلال الاسبوعين الفائتين في مشاهد ترفع الرأس وتدعو الى الثقة بالنفس، وهي مشاهد اعادت الى الاذهان صور الانتفاضة الاولى المجيدة، واكدت ان الاقصى ليس لقمة سائغة يمكن ازدرادها بسهولة، والاهم من ذلك انه في هذه المواجهة ذات الابعاد الدينية، المفتوحة على مداها الواسع، لا مجال فيها للحلول الوسط او الترضيات او التسويات الجزئية، على عكس ما هو عليه الحال في اي من جوانب هذا الصراع الذي لا يزال صراعاً سياسياً حتى اليوم.

ازاء ذلك كله، نقول ان الغطرسة الاسرائيلية المتمادية في استهانتها بكل ما يمثله المسجد الاقصى من قيم خالدة ابد الدهر، وما يرمز اليه من معانٍ فوق وطنية، قارفت الخطأ الذي لا يمكن غض البصر عنه، او التسامح ازاءه، عندما تلبسها التعصب الديني المثير للخواطر، والعمى السياسي المطبق، وراحت تعبث بنيران حرب دينية لا شفاء منها، وتنفخ في الكور بحماسة شديدة، وذلك عندما خطت خطوتها الاولى، على طريق مصادرة الاقصى جهاراً نهاراً، واخلائه من اصحابه الشرعيين، ووضع اليد عليه بكل صفاقة، من خلال نصب البوابات الالكترونية وكاميرات المرقبة، على مداخل قدس اقداس المسلمين والفلسطينيين البررة بمسجدهم، هؤلاء الذين هبوا للدفاع عن بيت المقدس ، بصورة اشد صرامة وابلغ حيوية، عما مارسوه من صمود ومقاومة، حتى دفاعاً عن انفسهم.

وعليه، فإننا نكرر التحذير السابق، ولن نمل من تكراره، ونعيد التأكيد مرة تلو مرة، على ان ما تقوم به سلطات الاحتلال الكريهة، وما تتصرف به من استعلاء وعنجهية لا تخلو من عنصرية، بما في ذلك الاصرار على فرض هذه البوابات المرفوضة شكلاً ومضموناً، لهو المقدمات الاولى لحرب دينية قد تستمر حتى يوم القيامة، ولعل هذا بعينه هو ما لا تحتاجه هذه البلاد التي فيها ما يكفيها من عوامل توتر وانفجار، تتناسل كالأميبيا من بعضها بعضاً، منذ نحو مئة سنة طافحة بالدماء والعذابات والمزاعم والخرافات.

واليوم، هناك حديث عن إجراءات وربما مناورات تقوم بها حكومة الاحتلال الاسرائيلي بسحب بواباتها الالكترونية، وإستبدالها بكاميرات واجهزة أخرى لم تتحدد بعد. لا أريد أستباق الأحداث، فإن العلماء والسياسيين في القدس يدرسون الاجراءات الاسرائيلية بكل أبعادها قبل الاقدام على تقديم موقف متعجل، الأقصى للمسلمين ولن يكون لغيرهم أبداً مهما بلغ الظلم والعدوان.