نهاد خنفر - النجاح الإخباري - في فلسطين المحتلة جبال من التعقيدات الجاثمة على صدور الناس. الأكثر تعقيداً في بنية هذه الجبال، هو انعدام الأفق، غياب الرؤية، تضاعف الظلم والالم بشكل يومي. الاحتلال هو الأساس في كل العقد، وهو المسبب الأول لكل أشكال الاحباط وضيق الأفق.
لا حاجة لنا في تذكير أنفسنا بالحجم الهائل من الصعوبات والمشاق التي خلقها الاحتلال ولا زال عبر آلته العسكرية، وسيطرته الكاملة على كل مناحي الحياة الفلسطينية. هناك يقين بأن الاحتلال يريد ان يستمر الى ما لا نهاية، وان يمارس احتلاله بشكل رخيص جداً، احتلال وحشي ظالم، ولكن دون تكاليف عالية. احتلال يمارس عنجهيته وقهره دون أي حساب، الا إذا كان هذا الحساب مدفوعاً من جيوب الفلسطينيين. 
في نظرة مبسطة على الأمور، نجد ان الاحتلال الإسرائيلي قد نجح فعلياً في خلق قواعد جديدة لتوطيد رموزه الاحتلالية بشكل غير مسبوق، بحيث يصبح هذا الاحتلال العنصري، ممولاً من قبل الجهات المانحة والفلسطينيين أنفسهم، وما تستفيد منه دولة الاحتلال على كل المستويات. 
في العقدين الأخيرين، وبخطوات عملية صارخة نراها بأم العين، أريد للاحتلال ان يتحول إلى قدر لا فكاك منه او من قيوده الكابتة لأنفاس الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم. شهدت هذه العملية تحولات أساسية في كيفية تعاطي الاحتلال الإسرائيلي مع الشعب الفلسطيني بقطاعاته المختلفة وسلطته الحاكمة. 
في خضم ذلك، لم يتوقف الاحتلال عن حملات الاعتقالات التعسفية اليومية دون اعتبار لوجود السلطة الفلسطينية على الأرض والتي ترتبط معه باتفاقيات امنية واقتصادية وسياسية مفصلة. الحصيلة آلاف من المعتقلين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. في هذه المعتقلات، تتعمد إدارات سجون الاحتلال اذلال المعتقلين وقمعهم، بل وحرمانهم من ابسط حقوقهم الإنسانية. هذا بالإضافة الى الاعتقال الإداري الذي ورثه الاحتلال الإسرائيلي عن الحكم العسكري البريطاني أيام «انتدابه على فلسطين»، والذي يستخدم كسيف مسلط على رقاب الالاف من النشطاء الفلسطينيين، ومن ضمنهم رواد المقاومة الشعبية اللاعنفية، أولئك الذين يزجون في السجون دون أي محاكمات او اتهامات او الخضوع للتحقيق، ويمضي بعضهم العديد من السنوات على هذه الحال.
بعض هؤلاء المعتقلين قرروا خوض اضرابات فردية مفتوحة عن الطعام، وصلت في بعض الأحيان الى تسعة أشهر متواصلة حتى يتم إيقاف اعتقالهم الإداري، كما حصل مع سامر العيساوي.
وعلى الرغم من الاختراقات الفردية التي حققها هؤلاء المعتقلين والتي انتهت بالإفراج عن عدد منهم او بإيقاف تمديد اعتقالهم الاداري، الا ان ذلك لم يغير شيئاً من الممارسات اللاإنسانية لإدارات السجون، بل ان هذه الإدارات استمرت في نهجها القمعي ظناً منها بعدم قدرة المعتقلين على توحيد قرارهم بكيفية مواجهة حملات القمع المنهجية بحقهم. 
يأتي اضراب الاسرى الجماعي المستمر منذ أسبوعين تقريباً بقيادة مروان البرغوثي المعتقل منذ 15 عاماً، كرسالة واضحة بأن صبر المعتقلين قد نفد، وبأنهم قادرون على قلب معادلة القمع على دولة الاحتلال. بل وان الاسرى، وعلى رأسهم البرغوثي، يرسلون رسالة لا مشقة في قراءتها، بأن الاسرى هم سر الإجماع الوطني، وسر وحدة فصائله وتوحدهم حول رمزية الاسرى دون حسابات ضيقة مقيتة. تتجلى هذه القدرة من خلال التضامن الشعبي الواسع مع حركة الاضراب، وتصعيد الخطوات الداعمة له في كل أماكن التواجد الفلسطيني، وكأن الاسرى يعيدون البوصلة الى اتجاهها الصحيح، بل ويرسخون قدرتهم على القيادة بروح وطنية جماعية يبدو انها تربك الاحتلال وقياداته. 
يتحرك الاسرى بإضرابهم نحو الامام، لكن هذه المرة بصياغة مختلفة، فيها إصرار على إعادة التفكير بالقيمة المضافة للحركة الوطنية الاسيرة، وقدرتها على إعادة صياغة وتمتين المقاومة الشعبية الجماعية المؤثرة، والقادرة على حصد النتائج المطلبية وتعزيز قيمة المطالب الوطنية السياسية. يتفاءل الكثيرون بان تقوم الفصائل الوطنية والسلطة الفلسطينية باتخاذ خطوات عملية مستمدة من الروح القتالية للأسرى المضربين عن الطعام، وان تبث حياة جديدة في الروح الوطنية الفلسطينية التي تراخت عبر العقدين الماضيين، والاهم من ذلك، تصليب الوحدة الداخلية على المستوى الشعبي بعيدا عن الانقسامات الفصائلية التي تعمق الجراح وتشوش على قدرة الفلسطينيين بتحقيق انجازهم الوطني. الاسرى يعودون بسلاح لا عنفي جديد قديم، يؤسسون لروح وطنية جامعة ومتجددة أيضا، ربما اريد لها، في عقول وقلوب قادتها أن تؤشر لبداية مرحلة جديدة.
في اتجاه اخر، وتزامنا مع اضراب الاسرى، فقد اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالآلاف من المنشورات والتعليقات الصادرة عما يسمى «حراك الاتصالات» والمعنون ب «بكفي يا شركات الاتصالات». هذا الحراك وصل تقريبا الى ربع مليون عضو، كلهم أو جلهم يحتجون على المعاملة غير العادلة التي يتلقاها المشتركين من مزودي الاتصالات الرئيسيين في الأرض المحتلة وخصوصا شركتا جوال والاتصالات الفلسطينية «بال تل»، وبأقل حدة شركة الوطنية. 
من المثير ان يتطور الحراك بشكل تصاعدي ويكتسب دعما يوميا من القطاعات الشعبية المختلفة. ومن المثير أكثر بأن هناك تجاوب عريض للخطوات التي يقودها الحراك والتي دفعت الاف المشتركين لايقاف اشتراكاتهم مع هذه الشركات، رافضين العودة عن ذلك الا بعد قبول شركات الاتصالات بشروط الحراك واولها تخفيض تعرفة الاتصالات الثابت والجوال والنفاذ الى شبكة الانترنت، وتحسين شروط الخدمات المقدمة، مع مقارنة دائمة بما تقدمه الشركات الإسرائيلية والاردنية من شروط وأسعار الخدمات المماثلة.
التحرك الجماعي، تحرك لم يسبق ان حصل من قبل، على الرغم من الازمات والضوائق الاقتصادية الكثيرة التي مرت على الفلسطينيين في العقدين الأخيرين، ولكن ما يمكن ان يستشف او يقرأ مباشرة من مطالب الحراك هو التمرد ضد الاحتكارات الرأسمالية «واهمها في قطاع الاتصالات» والتي جعلت بعض السلع الأساسية بيد دائرة ضيقة جداً من المستثمرين الذين يحتكرون قطاعات استثمارية متعددة تمس حاجات الناس اليومية. مجمل التعليقات التي يمكن قراءتها تأتي في إطار التعبير عن نفاد صبر الناس العاديين، وبدء مرحلة رفع الصوت بشكل عالٍ وإلحاقه بخطوات احتجاجية عملية مباشرة، يبدو أنها بدأت بالتأثير فعلياً على حجم أرباح شركة الاتصالات التي أعلنت تقلص أرباحها للربع الاول في هذا العام بأربعة ملايين دينار أردني قياساً بما يقابله من أرباح الربع الأول من العام الماضي. 
طبعاً الأسئلة المطروحة كثيرة وذات اتجاهات متعددة، وربما انها تحمل دلالات بحاجة الى قياس علمي وموضوعي، ولكن التقدير العام، يؤشر الى ان الفلسطينيين، في هذه الحالة هم الاسرى، ونشطاء حراك الاتصالات، يبعثون وبشكل لا لبس فيه، بأن الوضع السياسي الحالي، ممثلاً بالاحتلال ومخلفاته، والحالة الاقتصادية، ممثلة بالاحتكار وأدواته، يؤجج حالة ضغط هائلة لم يعد بالإمكان تحملها أكثر مما حصل في العقدين الأخيرين. لعل الإضراب والحراك لم ينسقا معاً، ولكن جاءا في وقت يعبران فيه عن غبن يلحق بالأسرى وقيادتهم، وهم يشعرون بأنهم تحولوا الى ارقام يحصون أرقاماً بسنوات أعمارهم في السجون، ويتعرضون لعملية قمعية لاإنسانية مستمرة، مع عذابات حقيقية على كل المستويات. يخوضون إضرابهم صارخين بأن الكيل قد طفح، وبأنه قد حان الوقت لإعادة تعريف هويتهم ومكانتهم الوطنية القيادية بعيداً عن الإحصاءات والأرقام. يذكّرون الكل الفلسطيني بأنهم لا زالوا قادرين على خوض المعركة، بل وتصعيدها وتحقيق الالتفاف الفلسطيني الوطني حولها رغم ظروف اعتقالهم والقيود المفروضة عليهم. 
في حراك الاتصالات، الناس العاديون أو «المستهلكون» يكشفون عن مرارة لم يعد بإمكانهم تجرعها أكثر مما فعلوا طيلة العقدين الأخيرين. يضعون شعورهم المر بوطأة الاستغلال على طاولة صناع القرار، ويؤسسون لإشارات جدية وجلية بأنهم أيضاً قادرون على التغيير بعيداً عن الأطر السياسية، وبعيداً عن دعم الإعلام الذي تركهم يخوضون معركة العدالة الاجتماعية لوحدهم، ويبدو انهم فعلياً قد ابتدعوا او في طور إبداع تغيير حقيقي مؤثر قد يكون له السبق في إعادة تصحيح المسار ومحاربة اشكال الاحتكار الذي تنام عنه الحكومة أو صناع القرار. 
الاضراب والحراك، رسائل وطنية بحجم الوطن وبشاعة المحتل. ربما إنهما يصوغان قواعد جديدة في إدارة المعارك الوطنية مع المحتل، وفي تصحيح المسار الاجتماعي والاقتصادي الداخلي باتجاه مجتمع أكثر عدالةً وتوازناً، مع صرخة رفض قاطعة لأي نوع من أنواع الاستغلال لجيوب الناس وتعميق جراحهم الاقتصادية التي تمس قوتهم اليومي. هي معركة يخوضها الحراك، ربما تكون إشارة البدء لحراكات أخرى مستقبلية تعزز من مشاركة الناس العاديين في صناعة قدرهم وحاضرهم وتساهم في كسر الاحتكارات من كل الأنواع، وتعلن ان الاحتكار والاستغلال يضعفان من عزيمة الفلسطينيين وصمودهم في وجه الاحتلال.