مالك ونوس - النجاح الإخباري - لم يكن شرط تطبيع السودان علاقاته مع دولة الاحتلال الإسرائيلي مطروحاً سابقاً، لإزالة اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل كانت هنالك شروط لم يلتزم مجلس السيادة الانتقالي عدداً منها. ثم أتت موجة التطبيع، وبقي السودان الحلقة الأضعف بين الدول العربية التي يمكن مساومتها بحريةٍ، وابتزازها لإزالة اسمه من القائمة. أما التطبيع الذي بات بعضهم يتغنَّى بمنافعه لتطور الدول العربية وازدهارها وتحقيق معجزات اقتصادية فيها، فتنقضها تجربتا مصر والأردن، في حين أن السبيل الأقصر للتطور والازدهار لا يحققه سوى محاربة الفساد المستشري في هذه الدول، والعمل بالدستور وتطبيق القانون وضمان الحريات واعتماد التنمية المستدامة. أما تهاون العسكر مع قضايا محاربة الفساد وإزالة التَّمكين وتسليم المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإرهاب لمحكمة العدل الدولية، فتدلّ على أنهم لم يكونوا يريدون حل مشكلات البلاد العالقة، إلى أن تفاقمت، فأتاهم التطبيع الذي سيُمكِّنهم ويوهم الشعب بالازدهار الموعود.

تهاون العسكر مع قضايا محاربة الفساد وإزالة التَّمكين وتسليم المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والإرهاب لمحكمة العدل الدولية يدلّ على أنهم لم يكونوا يريدون حل مشكلات البلاد العالقة

وأُدرِجَ اسم السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب، لاتهامه بتوفير المأوى لزعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، في تسعينيات القرن الماضي، علاوة على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام الرئيس المخلوع، عمر البشير، عبر مليشيا الجنجويد في إقليم دارفور، والتي على إثرها أصدرت المحكمة الجنائية الدولية قراراً بتوقيف البشير وتقديمه للمحاكمة أمامها. إضافة إلى ذلك، هنالك اتهام السودان بمسؤوليته عن تفجير المدمرة كول قبالة خليج عدن والسفارتين الأميركيتين في دار السلام ونيروبي. غير أن الولايات المتحدة التي كانت تُصرّ على محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم عبر تقديمهم للمحكمة الدولية وتعويض ضحايا التفجيرات، شرطاً لإزالة اسم السودان عن القائمة، تنازلت عن شرط المحاسبة، واكتفت بتعويض الضحايا والتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. كذلك فإنها، في سبيل التطبيع، تغاضت عن حقيقة أن من المسؤولين عن تلك الجرائم من لا يزالون في مجلس السيادة الحاكم حالياً وتتفاوض معهم.

ويقودنا هذا التغاضي إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تتغاضى عن خطوة انقضاض العسكر على الحكم والانفراد بالسلطة التي يتوقون إلى اليوم الذي يظفرون بها وحدهم، بعد استبعاد المكون المدني. هذا التوق الذي أوحت به خطوة الشروع بالتطبيع التي اتخذها رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، عندما قرّر منفرداً، ومن دون استشارة أعضاء المجلس أو الحكومة الذين علموا من وسائل الإعلام بلقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أوغندا، بداية فبراير/ شباط الماضي. كذلك يوحي به قرار القوات المسلحة تشكيل وحدة خاصة بتتبع النشطاء على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يرأسها ضابط، ومهمتها رصد الإساءات التي يمكن أن يوجهوها إلى الجيش وتقديمهم للقضاء. وجاءت هذه الخطوة بعد اتهامات للسلطة بالتساهل مع المسؤولين عن ارتكاب مجزرة فض الإعتصام أمام القيادة العامة، في 3 يونيو/ حزيران 2019، وعدم تقديمهم إلى المحاكمة، على الرغم من ثبوت تورّطهم فيها ووضوح انتمائهم إلى قوات الدعم السريع والمخابرات. 

ستلتقط الدولة العميقة أنفاسها بانتظار انقضاضها على كل ما حققته الثورة السودانية

وتعدُّ هذه الخطوة من أبرز الملامح التي تشير إلى محاولات الجيش للانفراد بالحكم، لكونها تُعَدُّ انتهاكاً لبنود في الوثيقة الدستورية التي تَوافَق المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير على العمل بها خلال الفترة الانتقالية، ومنها البند الثاني من بنود مهمات المرحلة الانتقالية: "إلغاء القوانين والنصوص المقيدة للحريات". كذلك إن خطوة الاتفاق على التطبيع، وتسويف رئيس الحكومة حين تحدّث عن رفضه الربط بين رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب والتطبيع، واشتراطه موافقة البرلمان غير المُشكَّل بعد، ثم ظهوره طرفاً في توقيع الاتفاق مع البرهان، هذه الخطوة ستجعل أبناء الشعب ينكفئون عن دعم هذه الحكومة، وهي التي لاقت أوسع التفافٍ شعبي حولها، كما لم تلاقِ حكومة سودانية من قبل. وسيساعد انفضاض الشعب عنها إلى انقضاض العسكر عليها، وتغييبها في اتخاذ القرارات التنفيذية المناطة بها، ما يقوّي شوكة العسكر على حساب المكون المدني في مجلس الحكم. 

وفي هذا السياق، سيلاقي العسكر الدعم من أميركا والكيان الإسرائيلي في كل ما يقومون به من خطوات تقويض الديمقراطية الوليدة لتعزيز سلطتهم، إذ ستعطيهم الضوء الأخضر لزيادة قمع المظاهرات التي تخرج احتجاجاً على التطبيع وعلى تدهور الأوضاع المعيشية. وفي وقتٍ يرى فيه العسكر مصلحتهم في التطبيع، سارع الإسرائيليون بتقديم مساعدات إسعافية على شكل طحين بقيمة خمسة ملايين دولار، ودولة الإمارات بتقديم أكثر من 60 ألف طن قمح، في مصادفةٍ ستزيد شعبية العسكر وإظهار الثمار المبكرة، على تواضعها وآنيتها، لخطوة التطبيع التي اتخذوها.

سيلاقي العسكر الدعم من أميركا والكيان الإسرائيلي في خطوات تقويض الديمقراطية الوليدة

من جهة أخرى، قد يؤثر دعم الولايات المتحدة والإسرائيليين العسكر بعملية تفكيك الدولة العميقة التابعة لنظام البشير، التي تجري عبر عملية إزالة التَّمكين المسلّحة بـ"قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة التَّمكين لسنة 2019" الذي أقرّه مجلس السيادة الانتقالي. وتبين أنه، بسبب تغوُّل نظام البشير وحزبه في مؤسسات الدولة ومشاريعها والجيش والأمن، قد تحتاج سنوات طويلة لإتمامها. ستتوقف هذه العملية، وستلتقط الدولة العميقة أنفاسها بانتظار انقضاضها على كل ما حققته الثورة السودانية، بدءاً بالوثيقة الدستورية التي تقضي خطة العمل بها بنقل السلطة إلى المدنيين بعد تحقيق مهمات الفترة الانتقالية التي حُدِّدت بـ39 شهراً، مروراً بإنجاز السلام في دارفور واتفاقات السلام مع الحركات المسلحة التي كانت تناهض حكومة البشير، وصولاً إلى ضرب حلم الدولة المدنية.

قد يلعب العسكر على وتر تحقيق الاستقرار والبدء بالإصلاحات الحقيقية والتحضير لعملية اقتصادية تنقذ اقتصاد البلاد المتهالك وتبعث النشاط فيه، ولكن على حساب الحريات. وعسكر السودان المعروف بمكره، من الممكن أن ينسحب إلى الوراء، ويتظاهر بقبوله الدور المناط به في حماية البلاد أمام حكم مدني يعمل على ضمان الحريات الديمقراطية، ويُشرك أوسع أطياف المجتمع السوداني في الحكم، غير أن هذا الحكم المدني لن يلقى مساعدة العسكر في تحقيق الاستقرار الضروري لتحقيق التنمية وتعزيز الاقتصاد فيفشل، ويجري الاستنجاد بالعسكر، كما كل مرة في غير بلدٍ عربيٍّ.