أحمد عيسى - النجاح الإخباري - انتهى لقاء اسطنبول يوم الخميس الماضي الموافق 24/ 9/ 2020 بين طرفي الانقسام، بتوافقهما على رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تجعل من الانتخابات (التشريعية والرئاسية والوطنية العامة) بوابةً لتحقيق مصالحة تقوم على الوحدة والشراكة والمقاومة، للمصادقة عليها ثم إعلانها للشعب في اجتماع الأمناء العامين برئاسة الرئيس محمود عباس، الذي سينعقد في الثالث من تشرين الأول المقبل دون تحديد مكان الانعقاد، وفقاً لإعلان السيد عزام الأحمد، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واللجنة المركزية لحركة "فتح".

وعلى ذلك يكون الانقسام الذي هيمن كمفهوم على الخطاب، وانعكس كسلوكٍ على العلاقات الفلسطينية الفلسطينية منذ أكثر من عقد ونيف، قد بدأ بالتحلل والتلاشي، لتحل مكانه مفاهيم وقيم سلوكية جديدة لطالما سعى الشعب الفلسطيني لتحقيقها كالوحدة والشراكة والفعل المقاوم.

وعلى الرغم من حاجة الشعب الفلسطيني للوحدة والشراكة، لا سيما في هذه المرحلة من الزمن التي بدا فيها اليمين النيوصهيوني الحاكم في إسرائيل كأنه على وشك تحقيق انتصار ساحق على الفلسطينيين، الأمر الذي تجلى بوضوح من خلال رؤية ترامب نتنياهو المعروفة بصفقة القرن، ومن خلال اتفاق أبراهام مع الإمارات والبحرين، فضلاً عن انحياز جامعة الدول العربية لرؤية الإمارات والبحرين في تجاوز الفلسطينيين وعزلهم، إلا أن نجاح لقاء إسطنبول في التأسيس لمصالحة تحقق الوحدة والشراكة قد أثار أسئلة أكثر من الأجوبة التي وفرها حول استحقاقات بناء الوحدة والشراكة.

فهل حقاً أزال اللقاء مفهوم الانقسام من الخطاب والعلاقات الفلسطينية- الفلسطينية؟ وهل عالج أسباب الانقسام، ولم يعد هناك حقاً مكانٌ لقلق الشعب الفلسطيني من احتمالات تكراره مرةً أُخرى؟ وهل وفر اللقاء بدائل عن الانتخابات الثلاثية كشرطٍ لتحقيق الوحدة والشراكة إذا ما أعاق الاحتلال تنفيذها؟ وهل هناك ضمانات بأن تحترم الأطراف الدولية والإقليمية نتائج الانتخابات؟ وهل أغلق اللقاء الأبواب أمام عبث الأطراف الإقليمية والدولية في الشأن الفلسطيني الداخلي؟ وهل أكد اللقاء الإجماع الفلسطيني برفض صفقة ترامب ومقاومة خطة الضم وإسقاط التطبيع؟

من جهتها، تجزم هذ المقالة أن لقاء إسطنبول قد وضع اللمسات الأخيرة على طريق اختفاء مفهوم الإنقسام من الخطاب الفلسطيني، وعلى الرغم من أهمية هذا الإنجاز ووجاهته، فإن اللقاء لم يعالج أسباب الانقسام، وليس في ذلك ما يعيب، إذ يدرك طرفا الانقسام، ومعهم كل مكونات العمل السياسي الفلسطيني، أنّ الانقسام كان نتاجاً لأسباب ذاتية وموضوعية، الأمر الذي يعني أنه لا يمكن معالجتها بلمسة سحرية أو في وقت قصير.

وللتخفيف من مخاوف الشعب الفلسطيني وقلقه من احتمالات تكرار الانقسام، عاهد طرفا الانقسام في وقت سابق الشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية، ومعهم أحرار العالم، من خلال بيان القيادة الموحدة للمقاومة الشعبية رقم (1) الصادر بتاريخ 12/ 9/ 2020، الذي يعتبر وثيقة من وثائق مسيرة إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة والشراكة، أنهم "لن يسمحوا من جديد لأيٍّ كان بالتلاعب بوحدة الشعب، وتجاوز ثوابته، وتهشيم ما أجمع عليه".

ومن جهة أخرى، ترى هذه المقالة أن اللقاء قد جعل من الانتخابات الثلاثية بوابة لبناء مصالحة ونظام سياسي يقوم على الوحدة والشراكة والعمل المقاوم، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل: ماهو مصير الوحدة والشراكة والعمل المقاوم في حال عطّل الاحتلال الإسرائيلي إجراء الانتخابات؟

وكيف ستتعامل إسرائيل وأطراف إقليمية أُخرى، مثل السعودية والإمارات والبحرين، علاوة على أطراف دولية كالولايات المتحدة الأمريكية، مع نتائج الانتخابات إذا فازت حركة حماس، لا سيما أن هذه الأطراف تصنف تنظيم الإخوان المسلمين الذي تنتمي إليه حماس منظمة إرهابية؟ وهل سيكون الحصار والمقاطعة كما هو الحال في قطاع غزة هو السيناريو الأكثر احتمالاً في الضفة الغربية؟ وعلى ضوء ذلك هل ستكون صناديق الاقتراع هذه المرة، إذا جرت الانتخابات، مُحركاً لانهيار السلطة؟ وإذا انهارت السلطة، فهل سيكون ارتفاع معدلات الفقر والبطالة محركاً لتصعيد المقاومة الشعبية، أم دافعاً للقبول بالأمر الواقع؟ وما مصير المقاومة الشعبية التي دعت إليها القيادة الموحدة في بيانها الأول خلال الأشهر الستة المقبلة؟ هل سيكون هناك هدوء لتمكين الشعب والفصائل من الاستعداد للانتخابات (وهذا ما يفسر ربما عدم صدور البيان رقم (2)؟ أم هل ستجُرى الانتخابات في ظل تصاعد المقاومة؟

ومن حيث انكشاف الساحة الفلسطينية أمام التدخلات الإقليمية والدولية، ترى هذه المقالة أنه بينما قلصت مسيرة إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة والشراكة من مساحة التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن الفلسطيني الداخلي، إلا أن مكان انعقاد اللقاء ودور الأطراف الإقليمية المُيسّرة له ينطويان على مؤشرات تدلل على رؤية فلسطينية يقترب من خلالها الفلسطينيون من محور قطر- تركيا بقدر ما يخدم هذا الاقتراب المصلحة الفلسطينية، لا سيما في هذه المرحلة التي لم يقف فيها النظام الإقليمي على قدميه بعد، وتخوض فيها قوى المنطقة الكبرى التقليدية صراعاً محموماً على إنتاج نظام إقليمي يخدم الحد الأقصى من مصالحها، الأمر الذي يفرض على الشعوب الصغيرة والضعيفة، مثل الشعب الفلسطيني، لضمان وجودها وإعادة بعث طاقاتها من جديد أن تُحسّن موضعة ذاتها في هذا البحر المتلاطم من الصراعات.

وينبغي هنا التأكيد أنه فيما تنطوي هذه الرؤية على منافع للفلسطينيين، فإنها في الوقت نفسه تنطوي على مخاطر ربما تفوق حجم المنافع.

وتتجلى المنافع في المكانة الإقليمية لتركيا، كونها من الدول الرئيسة التقليدية في المنطقة، وتمتلك من القوة الاقتصادية ما يؤهلها لاحتلال مكان بين الدول العشرين العظام حول العالم (G20)، فضلاً عن قوتها العسكرية الكبيرة مقارنةً بباقي دول المنطقة، كما أنها ترفض، ومعها إيران، هيمنة إسرائيل على إقليم الشرق الأوسط طبقاً للرؤية الأمريكية للنظام الإقليمي.

كما أنها، أي تركيا، لم تغلق أبوابها في وجه الفلسطينيين في الوقت الذي خذلتهم فيه جامعة الدول العربية، فيما لا تُخفي تركيا رفضها صفقة القرن وخطة الضم الإسرائيلية، ومعارضتها كذلك التطبيع الإماراتي البحريني مع إسرائيل دون حل القضية الفلسطينية، وتتمسك بالمقابل بحل الدولتين على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.

أما المخاطر، فتكمن في تداعيات اللقاء على العلاقات الفلسطينية المصرية وغيرها من الدول العربية الصديقة، الأمر الذي يتطلب جهداً فلسطينياً لشرح وتوضيح أنّ ما جرى لم يكن في سياق اصطفاف فلسطيني ضد مصر، أو نكراناً لدورها التاريخي في الدفاع عن فلسطين والحقوق الفلسطينية.

وتكمن أهم المخاطر في المحددات التي ترى في صفقة القرن مرجعاً للمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، الأمر الذي يتطلب جهداً فلسطينياً صادقاً يشرح للفلسطينيين أن لقاء إسطنبول لم يكن في سياق البحث عن صيغة للتعايش مع مثل هذا الموقف الذي يعترف بصفقة القرن كمرجع لإنهاء المطالبات التاريخية الفلسطينية.