عدي أبو كرش - النجاح الإخباري - لعلني من أكثر الناس ايماناً بوجود فايروس كورونا، وأنني من أكثرهم حذرا في اتباع اجراءات الوقاية، والسلامة، وقد عبرت عن مخاوفي من اثار هذا الفايروس في كثير من الأوقات، ليس خوفاً على نفسي فقط وانما تحسباً لما قد اسسبه من ازهاق لارواح احبائي أو اقله أن اكون سبباً في معاناتهم.

ولقد أشدت بالاجراءات الحكومية في فترة الحجر الاولى (14 يوم الأولى)، وقلت نصاُ بأن الحكومة ترواغ الفايروس، فمع نقص الامكانيات، كان لزاماً علينا الهرب من وجهه، أملا في وصول العالم لحل له، تماماً كما فعل العالم، لا بل كنا الاسبق.

ومع تلك الاجراءات  شهد منحنى الثقة في الحكومة ومركبات الدولة، أعلى مستوياته، وتصاعد تباعاً مع اجراءاتها المتعلقة بالانكشاف على الجمهور، وتيسير تدفق المعلومات من خلال الايجازات الصحفية اليومية، وكان وقفها أول ما اومأ للجمهور الفلسطيني بانتهاء المعركة مع الفايروس رغم كل ما سيق من تحذيرات بشأنه حيث أن الانسان في اكثر ما يتعلم منه، يتعلم من الاستدخال والملاحظة لا القول.

اصبح يشكل نجاحنا في تلك المرحلة مساحة آمنة لصانع القرار، ورغب في اعادته رغم فيضان المتغيرات، الا أن تغير الظروف المحيطة استلزم سياسات أخرى، حيث لم تعد تلك  قادرة على الاستجابة لاحتياجات الجمهور، ولم تعد الاجابات بإما/ أو – التي قد تناسب الكثير من الدول- قادرة على التعامل مع الانقلاب الذي احدثه الفايروس وجائحته على طبيعة الحياة.

ولعل تزايد الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية، الى جانب المتغيرات السياسية وما رافقها من ضبابية، يمنعنا من انتهاج الاجابات السهلة والمباشرة وتقديمها كحلول كافية للجمهور، ويقوم هنا سؤال بشأن ماهية صناعة سياسات مستنيرة بالطبيعة الاعتقادية والقيمية للمجتمع؟ وفي ظني أن هناك ثلاث أبعاد اجتماعية، لا بد من التعمق في تحليلها لدى صناعة السياسات العامة:

أولاً. مستوى تجنب حالات عدم اليقين

 أنكر المواطن الفلسطيني وجود فايروس كورونا حاله حال شعوب اخرى، اعتقاداً بنظرية المؤامرة، وقد نتج ذلك عن وجود حالة من عدم اليقين بشأن نشأة الفايروس ووجوده، ومدى أثره، وحيث أننا كمجتمع نشترك مع مجموعة موسعة من الشعوب، في ميلنا لتجنب حالات عدم اليقين، معززاً بقيم ثقافتنا العميقه سيما اعتقادنا بحتمية حدوث القدر (المكتوب)، لوجدنا أنه كان لزاماً على صانع القرار التفكير عميقاً بالفعل التوعوي وضرورة صناعته بطريقة مختلفة.

فكان على صانع القرار الفلسطيني ايجاد مسارات تنسيقية بحيث تتولى الفواعل الوطنية المختصة والخبيرة في التعبئة الوطنية، والاجتماعية عمليات التوعية، واخراجها من دائرة الموسمية والمبادرة الفردية. وهنا كان وجوباً ايجاد مسارأ تنسيقيا بين كل من وزارات التربية، والثقافة، والاعلام ومؤسسات المجتمع المدني لقيادة هذا المسار، وتوظيف الجوامع الدينية (الكنائس، والمساجد)، بكوادرها المختلفة للعب دوراً في عملية التوعية وذلك بالتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية للاسهام في تقليل مستويات مستويات عدم اليقين في المجتمع. 

ولعلني هنا استذكر ما قام به دولة رئيس الوزراء في اطلالته الاولى على تلفزيون فلسطين تالياً بيان حالة الطواريء، دون مقدمات وبمستوى اضاءة خافت، بزي ليس مكتمل الرسمية، مؤشراً على خطورة الوضع، والذي شكل صدمة لوعي الجمهور المنكر لوجود الفايروس، وتقديمه اجابة قطعية بأن الفايروس صار  حاضراً بيننا، وما كان له من اثار في انضباط الجمهور للقرارات الحكومية التي تلته.

ثانياً: تكريس القوة

يميل المجتمع الفلسطيني الى تكريس القوة في أيدٍ محددة، ومع تعطل العملية الديمقراطية الوطنية، اصبح  أكثر اضطراراً لممارسة هذا البعد، وما يحتمله ذلك من معاني تتصل بالمسؤولية فانه عندما يضع المجتمع قوته، في ايادٍ محددة فانه يميل في ذات الوقت الى تحميل تلك الايدي المسؤولية الكاملة عن مآل قرارتها فيه.

 واداراكاً لهذا البعد واثره على السلوك الانساني فقد كان على صانع القرار العمل على تعظيم دور مؤسسات الحكم المحلي، بالتنسيق مع وزارتي الحكم المحلي، والداخلية واسناد تلك المؤسسات بأكبر قدر من السيطرة على المشهد المجتمعي، في مناطقها وذلك بوصف هذه المؤسسات مكامن قوة حديثة الشرعية، ولم تنقطع فيها العملية الديمقراطية وتخاطب الميل المجتمعي لتكريس القوة الذي بدوره يقلل من حالات عدم اليقين.

وهنا يتحقق لصانع القرار قدرة أعلى في مناطق ولايته على مناطقه، بمختلف تصنيفاتها، وتعزز من تلك الولاية على المناطق التي يحاول الاحتلال دوما انتقاصها فيها، وفي ذات الوقت يحقق أعلى مستوى خدمات ممكن للجمهور الفلسطيني، ويعفي التنظيمات والاحزاب السياسية، والفواعل الوطنية الأخرى من ردات فعل التشكيك في فاعليتها سيما فيما يتصل في المساعدات، وتدفقها.

ثالثاً: الفردية والجمعانية

يتصف المجتمع الفلسطيني بالمجموعاتية، ولعل أهم ما يمكن استخلاصه في هذا البعد بأن التدخل في مستوى الافراد سوف تكون اثاره محدودة الى حد كبير، ولعلمنا بأن المجتمع الفلسطيني بصفة عامة، منظم في مجموعات منها حزبية، واجتماعية، ونقابية، واشكال تجمعات مدنية مختلفة، فقد كان لزاماً على مؤسسات الدولة اعداد خرائط الأثر المجموعاتية، وتعظيمها في انفاذ تدخلات الدولة بما لا يتضارب ومفهوم مدنية الدولة، حيث الأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني القاعدية منها على وجه التحديد، والنقابات وفروعها المناطقية، هي مجموعات الاثر ذات الرؤية المدنية، على أن توضع في اطر تنسيقية متصلة بمواقع صناعة قرار في المستويين المحلي والوطني.

ان المسارات التنسيقية المشار اليها ليست سوى أمثلة للتدليل على مستوى التنسيق الذي كان/ ولا زال واجباً علينا اتباعه، وانه لمن البديهي أن تتخذ الدول المستقرة قراراتها ببساطة، لوفرة الامكانيات المساندة/ ولديها ما يكفي من أموال لسد حاجات مواطنيها، وتلك الدول التي لديها انظمة الضمان الاجتماعي، أما نحن كفلسطينيين فمحرم علينا القرار البسيط، وواجب علينا التفكير المعمق بكل قرار في ظل رؤية وطنية واضحة. 

أدرك تماماً بأن القراءات البعدية عادة ما تكون وصفية، لا تحتمل جوانب العمل تحت الضغط غير أنها قد تكون مفيدة لتوثيق الدروس المستفادة، وقد تعطي اضاءات على مستقبل القرارات اللاحقة