النجاح الإخباري - د.مؤيد حطاب كرست عوامل مختلفة امتدت عبر مراحل الحكم العربي والإسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الأسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

في المقال السابق وصلنا في مناقشة مراحل التطور التاريخي العربي، إلى مرحلة التحرر من الإستعمار، وكيف أدى رفض الإصلاحات التي نادت بها البعثات العلمية، إلى تأخر العرب عن اللحاق بغيرهم من الأمم حتى تمكن الإستعمار من أراضيهم. وقد دعت تلك البعثات إلى الإهتمام بكرامة الفرد وإنسانيته، وإطلاق الحريات الفكرية والسياسية، وتحقيق العدالة لكونها من أهم العوامل الدافعة باتجاه تعزيز الفكر النقدي والمنهج المعرفي المؤدي لنهضة العلوم العقلية والطبيعية وتقدم الحضارة. إلا أن تلك الدعوات الإصلاحية جوبهت بالرفض والإنكار، حيث توافق كلا من السلطة الحاكمة مع المدرسة الدينية التقليدية على ضرورة المحافظة على الفكر النقلي التلقيني كونه يخدم إستمرار النظام الشمولي للسلطة الحاكمة من جهة، ويضمن لأصحاب الفكر الديني التقليدي سهولة السيطرة على عواطف وعقول الناس، من جهة أخرى.

ولعل الأحداث المرتبطة بالإمام محمد عبدوه تمثل نموذج حي على ما سبق، فقد تعرض الإمام لحرب شرسة من علماء الأزهر وسلطة الحكم على السواء بسبب أفكاره الإصلاحية وآرائه التنويرية، ورغبته في خلع رداء الجمود من المشيخة وعلمائها، ومناداته بالحريات ومنع إستبداد السلطة الحاكمة. ثار علماء الأزهر ضد الإمام عبدوه، وطربت لذلك أغلال السلطة الحاكمة التي كان يقودها الخديوي عباس حلمي الذي كره الإمام بسبب أفكاره الإصلاحية ومطالبته بالحريات السياسية والفكرية، وتعزيز المواطنة والمساواة.  استغل الخديوي غضب علماء الأزهر فقام بطرده من مصر، وأيده بذلك شيوخ الازهر ومنابر المساجد، حتى أن خديوي مصر نعته بالكفر بناء على تصريحات بعض علماء الأزهر المناوئين لفكر الإمام. وقد تم نفيه إلى لبنان حتى ترتاح السلطتين من صوته المُقَيّض لإستبدادهم، إلى أن قتل مسموما بإيعاز من الخديوي.

لم تكن حالة إضطهاد الإمام عبدوه فريدة من نوعها في التاريخ الحديث، بل يشكل موقف السلطة الدينية والسلطة الحاكمة من كتاب الإسلام وأصول الحكم، للفقيه علي عبد الرازق، مثال آخر على توافق نظم الحكم الشمولي والعقل الديني التقليدي في تلك المرحلة وحتى يومنا الحالي، على رفض المنهج النقدي أو الدعوة للتحر الفكري من قيود الموروثات النقلية. ففي هذا الكتاب إعتبر عبد الرازق أن الإسلام هو دين ومنهج، لكنه ليس مؤسسة حكم، وبالتالي لا تشكل الخلافة أي أساس عقَدي أو فقهي في الاسلام، بل إنه جعل فصل السلطة التنفيذية (الحكومة) عن السلطة الدينية، واجبا وضرورة ملحة في هذا العصر.  شكل الكتاب صدمة كبيرة للأزهر، ليس فقط لكون مؤلفه من داخل المؤسسة الأزهرية، بل أيضا لكونه عضوا في هيئة كبار علماء الأزهر. من جهة أخرى، فقد صدر الكتاب بعد أقل من سنة عن إعلان نهاية الخلافة العثمانية، والذي حرك شهوة بعض القيادات العربية في السيطرة عبر السعي لتنصيب أنفسهم خلفاء الأمة الجدد. كان على رأس من راق له الفكرة وبدأ بالسعي لها الملك فاروق، وبالتالي اعتبر كتاب عبد الرازق ضربة لهذا التوجه، خصوصا ان كاتبه يعتبر أحد أبناء أهم العائلات المصرية المؤثرة والمنافسة للملك في ذلك الوقت. وبالتالي توافقت رغبة وحاجة السلطة الحاكمة مع العقل الديني التقليدي مرة أخرى في إضطهاد العقل النقدي، وضرورة رفضه. تم فصل عبد الرازق من الأزهر وعزله من هيئة كبار العلماء، ثم منعت الدولة توظيفه في أي مكان آخر، وحاربته في رزقه وسمعته، وتم تأليب الناس ضده، لدرجة أن الأحزاب القومية لم تصدع بالدفاع عنه خوفا على شعبيتها بين الناس. دعوة عبد الرازق النقدية تلك، وانقلابه على التقليد الفكري الممتد عبر التاريخ الاسلامي، كانت سابقة لزمانه وجرأة فريدة جعلته يلاقي مصير كل من سبقه من فلاسفة ومفكرين ممن حاول الخروج عن الفكر النقلي والموروث أو قدم بفكر جديد.

في تلك الفترة، الممتدة ما بين سقوط الدولة العثمانية ومرحلة ما قبل استقلال الدول العربية عن الإستعمار، إستمر أصحاب العقل النقلي من سلطتي الدولة والمجتمع المتدين في محاربة مشاريع الديمقراطية وإطلاق الحريات، ورفض كل فكر عمل على بناء نظام حديث يعزز مفهوم المواطنة وإقامة العدالة وفصل السلطات. فالخطاب الاسلامي في تلك الفترة كان رافض للنظام الديمقراطي لكونه بضاعة غربية لا تتوافق مع تعاليم الشريعة الاسلامية وحاكمية الله. اعتلى شيوخهم المنابر وألهبوا عواطف الناس بأن بضاعة التقدم التي يدعوا لها أنصار الديمقراطية والحريات ستؤول بهم إلى هدم الاسرة والمجتمع، وتدمير النظم الأخلاقية والدينية كما حدث في الغرب. وشكل ذلك الخطاب الديني دعما لسلطة الحكم الشمولي في إبقاء مركزية نظامها وتعزيز استبدادها فوق مفهوم المواطنة والعدالة. وبالتالي كانت الدولة تسكن سيفها في غمده، وتغلق أعينها لانتشار ذلك الخطاب الديني بين الناس، وتسمح له بالانطلاق عبر خطب المساجد، وكتابات الإسلاميين، وحلقات الدعوة الخاصة او العامة، ولا تشرع سيفها إلا على من جاهر بحربه على استبداد النظام الشمولي وطالب بتحرير العقل أو خلع رداء الاستعباد.  

ولعل أحد الأسباب الاخرى التي ساهمت في تخوف المجتمع من الأفكار الإصلاحية هو بروز جيل جديد من المفكرين والكتاب العرب الذين أثر فيهم صدمة الإستعمار حتى حَمَّلوا الدين نفسه، وليس العقلية المعرفية التي إتبعها المسلمون، وزر ما أحل بهم. وهم بذلك تناسوا أن أحد أسباب تأخرهم مرتبط بالسياسة الاستعمارية، وتناسوا أن المنهج الفكري النقلي والإستبداد السياسي الذي أَلِفه المجتمع العربي حتى قبل إستعمارهم بعقود طويلة، هو من أوصلهم لذلك الإنحدار. بل إنهم أهملوا حقيقة أن شعوبا أخرى، قد تمكنت من التقدم دون أن تلجأ لهدم تراث مجتمعها المحافظ. وهنا يمكن إستحضار ما ذكره الفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي، (في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي -الفصل السابع) أن النتيجة الطبيعية والمفترضة من تلاقي المجتمع الإسلامي بالحضارة المتقدمة للغرب، هو الإستفادة من عوامل نهضتهم، وقيام المجتمع العربي بمواجهة ونقد موروثاته الفكرية والثقافية؛ "غير أن الذي لم يكن طبيعيا هو جمود المجتمع الإسلامي وخموله في هذه المرحلة من التطور، وكأنه يريد أن يبقى فيها أبد الدهر. في حين أن مجتمعات أخرى؛ كاليابان والصين، بدأت من النقطة نفسها، ولكنها نزعت عنها ثوب الجمود وهي تفرض على نفسها ظروفا ديناميكية جديدة، ونظرية جدلية تاريخية جديدة". لقد أحسن الكاتب باختياره لليابان نموذجاً، ليس فقط لان مجتمعها كان يعيش نفس الظروف الفكرية والحضارية للعالم العربي في ذاك الوقت، بل لأنها تمكنت من النهضة الفكرية والعلمية، بعد أن استعانت بوسائل النهضة التي استخدمها الغرب، دون أن يؤثر ذلك على خصوصية ثقافتها وإرثها المحافظ.

في المحصلة، استغلت نظم الحكم الشمولي في الوطن العربي، الحالة الشعبية المرافقة للثورة ضد الإستعمار، وفيضان الشعور الوطني التحرري للشعوب في تلك المرحلة. وبالتالي عند تسلمها زمام الامور لم تعمل على إستنهاض دولها أو إستقراض الوسائل العلمية والمعرفية للنهضة، بل أخذت تتاجر بشعارات المرحلة، ومواجهة العدو الخارجي، والثورة على الرجعية والقوى الامبريالية، لتفرض المزيد من قمع الحريات وتكريس منهج التلقين. لقد عمدت تلك الانظمة لاستقطاب عواطف الجماهير عبر شعارت سياسية مرحلية وبراقة، ولم تأخذ من الغرب سوى الإطار الشكلي الخارجي لنظم الحكم. فلم تكن الدول العربية يوما دول شيوعية أو إشتراكية حقيقية، ولم تكن تطبق نظام الدولة الديني أو العلماني، ولم تكن دول فاشية أو ديمقراطية بشكل جوهري، بل كانت مجرد خليط من نظم شمولية ومركزية تستخدم تلك الأسماء لتتناغم مع الحالة الشعبية أو المرحلة التاريخية، لتتمكن من إبقاء قبضتها الإستبدادية.

ما زالت المنظومة الشمولية، تستخدم الشعارات العاطفية حتى تبرر لنفسها وللعامة من حولها أسباب تسلطها، مع بقائها في تسيير أمورها الداخلية وفق المنهج التقليدي المعتمد على متلازمة الفكر النقلي وعصا الإستبداد. وهنا يحضرني مرة أخرى ما قاله مالك بن نبي من أن المجتمعات تدفع دائما ضريبة خيانتها لنماذجه الأساسية، "فالأفكار – حتى التي نستوردها- ترتد على من يخونها وتنتقم منه". ما سبق يثير التساؤل عن دور العلم والعلماء في مرحلة ما بعد الاستعمار، في تشكيل نهضة مضادة لما سبق، وهذا ما سنبحثه في المقال القادم.