أنور رجب - النجاح الإخباري - التنسيق الأمني "المقدس"، المصطلح الذي هاج وماج له الكثيرون من فصائل وأحزاب وجماعات ومجموعات ومثقفين وأشباههم ومؤسسات التمويل الأجنبي وكذلك أصحاب النوايا الحسنة أيضاً، والذين سنَوا أسلحتهم وألسنتهم للنيل من الرئيس أبو مازن والمؤسسة الأمنية بعد أن ترجموا المصطلح ترجمة حرفية وفهموه بظاهره عن قصد وترصد دون محاولة فهم تداعيات وظروف وأسباب إطلاق هذا المصطلح أو التمعن في أبعاده السياسية والدبلوماسية.

 حتى أصبح هذا المصطلح ركناً أساساً في خطابهم الإعلامي، ولازمة لا تكاد تفارق مؤتمراتهم وتصريحاتهم وبياناتهم، التي اقترنت غالبيتها بعبارات التخوين والتفريط والانهزام والاستسلام، وكان لجماعة حماس نصيب الأسد في استخدام هذا المصطلح واشتقاق مصطلحات أخرى منه توظفها كلها للهجوم على الرئيس أبو مازن والسلطة والأجهزة الأمنية، واتخذت منه شماعة لتعلق عليها تهربها من الاستجابة لمبادرات إنهاء الانقسام، واعتبرت أن وقف التنسيق الأمني و"اطلاق يد المقاومة في الضفة" شرطاً رئيساً ضمن شروط أخرى لإتمام مشروع المصالحة، حتى بتنا نشعر أن هذا الشرط هو البوابة لتحرير فلسطين كل فلسطين.

في هذه المقالة نسعى لسبر غور هذا المصطلح ومحاولة فهم السياقات التي جاء فيها ضمن رؤية واستراتيجية الرئيس أبو مازن، وقبل الولوج في عملية التحليل والتأصيل للسياقات التي جاء فيها هذا المصطلح، دعونا نتفق أنه ومن حيث المبدأ أن وقف التنسيق الأمني يؤكد ويتبث أنه لا قدسية له في إستراتيجية الرئيس أبو مازن. إذاً لماذا هذا المصطلح؟ وما هي الظروف التي جعلت منه مقدساً وفي نفس الوقت نفت عنه هذه الصفة؟ وما علاقة هذا المصطلح بالمصطلح الآخر "الارهاب الدبلوماسي؟ هذا ما سنحاول أن نجتهد في تقديم اجابات حوله بما ينسجم مع قراءتنا وفهمنا لسياسة واستراتيجية الرئيس أبو مازن.

ثلاثة محاور ضمن محاور أخرى يمكن أن نميزها في استراتيجية الرئيس أبو مازن ذات علاقة بالمسألة محط النقاش، الأولى: أن سياسته لا تعتمد الخطاب الشعبوي، والقصد هنا، أنه في حال التعارض بين المصلحة الوطنية العليا والمزاج الشعبي العام فانه ينحاز للمصلحة الوطنية، وهذا يتسق مع سياسة الشفافية والوضوح والواقعية السياسية التي تُميز خطابه سواء لعموم الشعب الفلسطيني أو للمجتمع الدولي، وهو ما يشهد له فيه القاصي والداني، ويمكن أخذ هذا المصطلح نموذجاً لهذه السياسة.

والثانية: أنه يؤمن بالعمل السياسي والدبلوماسي والمقاومة السلمية والمراهنة على القيم الانسانية والحضارية في تحشيد الدعم الدولي بما يخدم القضية الفلسطينية، لا سيما وأنه يدافع عن قضية عادلة ومُحقة أمام آخر احتلال في العالم، وفق قاعدة "قوة المنطق ستنتصر أخيراً على منطق القوة"، وأن تحقيق النصر في هذا السياق هو عملية نضالية تراكمية تحتاج إلى صبر ونفس طويلين.

والثالثة: القراءة والفهم العميقان للتاريخ اليهودي وللمجتمع الإسرائيلي وللعقلية التي تحكم دولة الاحتلال وركائز ومحاور سياساتها، وقد سبق وأصدر عدداً من الكتب بهذا الشأن.
ارتباطاً بذلك كله، ندرك جميعنا مدى تأثر العالم بما يمكن أن نسميه "بكائية أمن اسرائيل"، حيث نجحت اسرائيل في كسب تأييد العالم لبكائيتها وتسويق نفسها كضحية تعاني من تهديد وجودي بسبب "العنف" الفلسطيني والمحيط العربي المعادي لها، وللأسف فقد ساهمت اللغة الملتبسة والخطابات العنترية والعمليات غير المدروسة لمنظمات فلسطينية تمتلك أجندات غير فلسطينية في تعزيز وتسويق هذه البكائية.

ومن هنا سنجد أنه لا يكاد يخلو أي مؤتمر أو اتفاقية أو ندوة أو حلقة نقاش أو لقاءات للقادة على المستوى الدولي ذات علاقة بمنطقة الشرق الأوسط دون التأكيد على ضرورة الحفاظ على "أمن اسرائيل".

وفي هذه السياقات أو المحاور جاء مصطلح التنسيق الأمني "المقدس"، ليكسر "بكائية أمن اسرائيل"، وتأكيداً على دحض رواية اليمين القومي الديني بزعامة نتنياهو بعدم وجود شريك فلسطيني في عملية السلام، وطمأنة لقوى السلام وللمجتمع الإسرائيلي، وفي نفس الوقت هو خطاب موجه للمجتمع الدولي يشير من خلاله إلى التزام السلطة ومنظمة التحرير بالاتفاقات الموقعة، وتحشيد الدعم للرؤية الفلسطينية تجاه عملية السلام.
ومن زاوية أخرى، إن العمل السياسي والدبلوماسي يتحرك وينشط ويتفاعل في مجموعة من الدوائر، بعضها يسمح بهامش كبير من المرونة والمناورة سواء بالمواقف أو التصريحات، ومصطلح التنسيق الأمني "المقدس" يأتي ضمن هذه الدائرة، ودوائر أخرى تسمح بهامش محدود من المرونة مثل "تبادل نسبة من الأراضي، ودولة منزوعة السلاح"، وأخرى يُمنع فيها إبداء أي درجة أو شكل من درجات أو أشكال المرونة كما هو الحال في مسألة الثوابت الفلسطينية، وهو ما كان عندما اتخذ الرئيس أبو مازن موقفاً حازماً وحاسماً وقاطعاً من الادارة الأميركية بزعامة ترامب على خلفية نقل السفارة الأميركية إلى القدس وموضوع اللاجئين، وما تلا ذلك من الاعلان عن باقي بنود صفقة القرن.

وأخيراً الموقف من مشروع الضم، وقراره بالتحلل من جميع الاتفاقات الموقعة مع الادارة الأميركية ودولة الاحتلال.
أما حول علاقة مصطلح التنسيق الأمني "المقدس" بوصفه يعبر عن رؤية واستراتيجية الرئيس أبو مازن وكيفية إدارته للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي ضمن المحاور الثلاثة التي أشرنا اليها آنفاً، ومصطلح "الإرهاب الدبلوماسي" الذي جاء ليعبر عن انزعاج قادة الاحتلال من هذه السياسة بعد أن فشلوا في إيجاد أي ثغرة ينفذون منها لإدانة الرئيس أبو مازن، وتشويه حقيقة مواقفه، لا سيما بعد النجاحات التي حققها على صعيد المجتمع الدولي والثقة التي نالها من زعماء العالم، حيث لم يجدوا سوى اختلاق تهمة غير مألوفة وغير مدرجة ضمن قواميس العالم أجمع، وتفصيلها على مقاس الرئيس أبو مازن وهي "الإرهابي الدبلوماسي"، إذاً يمكن القول إن مصطلح "الارهاب الدبلوماسي" هو نتيجة ورد فعل غوغائي على السياسية التي جاء في سياقها مصطلح التنسيق الأمني "المقدس".