د.مؤيد حطاب - النجاح الإخباري - كرست عوامل مختلفة أمتدت عبر مراحل الحكم العربي والاسلامي إلى ترسيخ العقل النقلي وجمود المعرفة، دون الفكر النقدي المعرفي. في هذه السلسلة أحاول البحث عبر التحليل النقدي عن أهم الاسباب التي ساهمت بذلك، وكيف تغيرت وسائل الفكر وطرق المعرفة في العالم العربي إلى أن وصلت لهذا الجمود الذي نشهده اليوم.

في المقال السابق أشرت إلى أن الفترة ما بين الدولة الاموية والعصر العباسي الأول، شهدت بزوغ  أفكار ومدارس متنوعة ما بين مذاهب عقلية وأخرى نقلية. لكن لم تخلو تلك المدارس من مراحل مدٍّ وجزر وفقا لموقف الخليفة منها. فالمدارس الفكرية أو النقدية كانت تطفو على السطح إذا سمح لها الخليفة بالبروز، لكنها تذوب وتختفي بمجرد نقمة الدولة عليها. كانت أبرز فترات العالم الاسلامي مداً في العلم والمعرفة هي فترة العصر العباسي الأول حيث إتسع في ذلك العصر حركة العقل النقدي وإنطلاق حرية الإبداع. لكن لم تخلو تلك الفترة من وجود قمع وإضطهاد لمفكرين وعلماء إذا لم يرق للدولة بعض أرآئهم. حيث كان الدافع الأكبر لتحيرك سيف الخليفة ضد المفكرين هو بسط السلطة والمحافظة على مركزية الحكم، وبالتالي أي فكر عقلي أو ديني يمنع أو يرفض الطاعة والولاء، كان يواجه بالقمع والإضطهاد.

كما أن إنتصار دولة الخلافة لرأي فلسفي أو مدرسة فقهية على حساب أخرى، كان متعلق بمزاج الخليفة ومدى قناعته الشخصية بهذا المذهب أو ذاك الرأي. فمثلا كان الخليفة المأمون من أنصار المعتزلة وسمح لهم بالإنتشار وقدم لهم العطايا والمراكز، ومنع مخالفيهم. وهكذا كان الخليفة الواثق لا يُولَّي أحدا ولاية إلا إذا تبنى مذهب المعتزلة، حتى أنه أمر بقتل معاريضيهم كما حدث مع قتله لأحمد بن نصر الخزاعي. أما إذا كان الخليفة على مذهب المخالف، فانه ينتقل الى النقيض من إضطهاد وتعذيب للمعارض كما فعل الرشيد مع بعض أهل الكلام رغم إشتهاره بحب العلم والعلماء والإنفاق عليهم. إستمر موقف الخلفاء من الفرق الفكرية والمدارس المذهبية، بين شد وحنين إلى أن دخلت الدولة العباسية عصرها الثاني بقدوم الخليفة المتوكل الذي منع العلوم العقلية وأمر أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير. وبحسب كثير من المؤرخين فقد كانت مرحلة المتوكل هي مرحلة نهاية العصر الفكري للعالم العربي والإسلامي حيث شهدت الدولة بعدها تراجعا ملموسا في إنتاجها العلمي وقوتها الحضارية حتى وصل الأمر إلى تمزق الخلافة العباسية لعدة ولايات مع نهاية ذاك العصر، ثم استمر تمزق الدولة العباسية لعدة دويلات أكثر من 600 عام.  

في مرحلة العصر العباسي الثاني، أخذت دولة الخلافة تضغط بقبضتها على الأفكار والمذاهب النقدية أو التي لا تروق لها، بينما تقوم في المقابل بدعم المدارس النقلية التلقينية وتخصها بالعطايا وتضع تحت إمرتها مختلف المراكز من مؤذن ومدرس وإمام وقاضي وغيرها، مما ساهم في تصدر العقل النقلي الداعي للسمع والطاعة وبيعة الخليفة، وغير المهتم بشؤون السياسة وطرق إصلاح نظام حكمها. سمح ذلك النهج ببروز التعصب والإنغلاق العقلي، وأتاح للدولة مساحة واسعة للقتل والقضاء على المخالفين والمعارضين بحجة الإرتداد أو الزندقة، حتى أن الخليفة المهدي أنشأ وزارة سميت "ديوان الزنادقة" تحت حجة الدفع عن الاسلام، وبالتالي مكنته من قتل المعارضين والخصوم السياسين في نفس الوقت.

مع قدوم العصر العباسي الثالث، إتسعت دائرة إضطهاد العلماء والفلاسفة من أصحاب الفكر النقدي، وتعددت أساليب قمعهم ما بين تحقير وتكفير وإحراق لكتبهم، حتى وصل الأمر إلى قتل بعضهم. ومن أشهر العلماء والمفكرين الذين تعرضوا لذلك الإضطهاد الحلاج الذي اشتهر بالتصوف، وكذا عالم الفيزياء جابر إبن حيان،  وصاحب علم الجبر الخوارزمي، وعالم الطيران الشهير عباس بن فرناس، والطبيب الفيلسوف الرازي، وكذا إبن سينا، ومجدد علم المعرفة الفارابي،  والرحالة إبن بطوطة، ومكتشف الدورة الدموية إبن الهيثم وغيرهم الكثير. ولم يقتصر ذلك الإضطهاد على علماء العلوم العقلية والتجربية فقط، بل حفل التاريخ الإسلامي بإضطهاد الفرق الاسلامية بعضها بعضا حتى وصل الأمر إلى التفسيق والقتل. ففي سنة 407ه، إرتكب المعز المالكي، أفضع المجازر بحق الشيعة في شمال إفريقيا حتى قيل أنه أهلكهم جميعا وأبادهم من تلك البلدان. وأمتد الصراع والإقتتال بين الأشاعرة والمعتزلة، حتى حَرَّم الأشاعرة أكل ذبائح المعتزلة وتزويج إمراة مسلمة منهم. كذلك فإن البويهيون الشيعة قَتلوا أهل السنة في العراق،  وقَتل الصفويون الشيعة أهل السنة أيضا. وقد كان فقهاء الحنابلة  تحت إضطهاد المعتزلة، حتى صارت الشوكة في يدهم بدعم الخليفة، فتحول الحنابلة إلى استخدام اشرس أنواع الإضطهاد ضد المعتزلة والأشاعرة، حتى أنهم صاروا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.

ولم يتوقف النزاع عند حدود الفرق الإسلامية، بل دخل الإضطهاد والتفسيق إلى داخل الفرقة الواحدة كما حدث من تفسيق المذاهب الأربعة لبعضهم البعض حتى تحريم الزواج بينهم وإحلال الدماء. فقد أدى التعصب المذهبي بين الحنفية والشافعية في نيسابور إلى قتل خَلق عظيم وحرق للإسواق وإهدار للمال العام. وورد عن إبن حاتم الحنبلي قوله "من لم يكن حنبليا فليس بمسلم، وروي أن الطوسي من الشافعية قال:"لو كان لي من الأمر شيء لأخذت على الحنابلة الجزية".  وهكذا تكون حال الأمة إذا حادت عن إحكام العقل النقدي، وتحكمت بها المناهج التلقينية المنغلقة، خصوصا إذا لازم ذلك فساد السلطة الحاكمة.

رغم جميع الصرخات التي أطلقها مفكرون وفلاسفة سابقون، من أمثال إبن سينا وإبن المقفع، والجاحظ والمعري، وصولاً إلى إبن رشد وإبن خلدون، بضرورة العودة لتغليب العقل النقدي ونظرية المعرفة، إلا أن العلوم العقلية بقيت تخفت أصواتها حتى شاعت دعوة الإمام أبو حامد الغزالي برفض الفلسفة في كتابه الشهير ’تهافت الفلاسفة‘ وما تبعها من إنتشار لأقوال إبن تيمية وإبن الجوزية وصلا لإبن عبد الوهاب ممن رفضوا العلوم العقلية والمنطق، وجعلوا العلوم الدينية أفضل العلوم تقدما على غيرها.  وهكذا سيطرت تلك الأفكار على المدارس والطلاب، وطربت لها آذان دولة الخلافة وصفق لها العوام، إلى أن لفظ المنهج النقدي المعرفي أنفاسه الأخيرة بإحراق كتب إبن رشد. هذا النهج الذي علا صوته برفض العلوم إلا ما جاء وفق الشرع، ورفض كل ما هو غربي وإن كان فيه الصلاح، بحجة أنه خضوع للفكر الغربي الكافر، لم تكن  بدايته في العصر الحديث، بل إنطلق أول عُصافه في عصر إنهيار الدولة العباسية. وما أدل على ذلك من قول إبن تيمية عن الخوارزمي بأن ما أتى به من علم الجبر، وإن كان صحيحاً، لا يفيد لأن العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره. ثم أضاف بأن علوم الحساب- الفلك والرياضيات - قد قدمت إلى المسلمين من الغرب الكافر، وشريعة "الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقاً صحيحاً..." (مجموع الفتاوى ج9/ 215). ربما قصد إبن تيمية أن العلومة الشرعية، بخلاف العلوم الدنيوية، لا تحتاج لغير الكتاب والسنة والسلف لفهمها، لكن حتى مع هذا القصد، فلا شك أن العلوم العقلية والتجربية، تسهم في فهم أعمق وأدق للمقاصد الشرعية.

 في المحصلة، فإن ما سار عليه الفكر الاسلامي في ذلك العصر وما تبعه من عصور، من تقديم العلوم الشرعية على سائر العلوم ورفض كل ما يأتي من الخارج، ساهم بشكل كبير في ترسيخ العقل النقلي وتغلبه، حتى طُردت العلوم غير النقلية من أمام الجوامع، ومنعت الأفكار المخالفة من حلقات المدارس. ولم يتوقف هذا الخطاب عند حدود عصر الخلافة، بل مازالت تلك الأفكار تسكن عقول معظم المدارس الدينية، وتسود الخطاب السياسي والإجتماعي العربي حتى عصرنا الحالي. وساهم في ترسيخ العقل النقلي وتغلبه، خضوع العالم العربي لحملات صليبية متعددة، ومن ثم قدوم المغول والتتار إلى بغداد وتدميرها على رؤوس أصحابها ومفكريها، وتمزق الاقطاب العربية الى دويلات متناحرة على الحكم والسلطة، وقيام دويلات للسلاجقة وللمماليك وغيرهم حتى خرجت الخلافة من يد العرب تماما بعد أن حول العثمانيون زحفهم من أوروبا وإتجهوا، في مطلع القرن السادس عش،ر إلى البلاد العربية. فهل عملت الدولة العثمانية على محاربة العقل النقلي، والقضاء على الخرافة المنتشرة في المدارس والجوامع، ومن ثم تغيير البوصلة الفكرية، وإعادة الحياة للمنهج النقدي المعرفي، حتى تتمكن من تأسيس حضارة مزدهرة بالعلم والعلماء؟  هذا ما سنبحثه في المقال القادم.