ماجد هديب - النجاح الإخباري - مخطئ هو كل من يعتقد بأن ما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية الآن من احتجاجات وتظاهرات مصحوبة بالعنف في بعض الأحيان هي ردة فعل اعتباطية على مقتل المواطن الأمريكي من أصول افريقية (جورج فلويد)، ومخطئ هو ايضاً كل من يعتقد بأن هذه الاحتجاجات ما كان لها أن تستمر دون قرار من حركة (حياة السود تهم) لإسقاط ما تبقى من معالم عبودية وصولاً لبناء أجهزة أمن لا عنصرية في عملها او تمييز، بل إن ما يجري هو بمثابة الانتفاضة التي خطط لها وسعى للإشراف على فعالياتها كل من فشل في عملية استمرار إخفاء الوجه الحقيقي للولايات المتحدة المشبع بالعنصرية والكولونيالية خلف قناع الديمقراطية وحقوق الانسان، حيث وجد هؤلاء بمقتل المواطن الأمريكي من أصول افريقية الفرصة التي كانوا يبحثون عنها لإعادة إخفاء هذا الوجه بالإعلان عن هذه الانتفاضة ضد الرئيس ترامب   الذي كشف بغطرسته وغبائه ما تمارسه الولايات المتحدة من استعمار وتمييز وعبودية، حيث لم تعد عبودية العصر الحديث هي تلك التي تقتصر على عمليات تقييد البشر بالسلاسل الحديدية مع الجلد على الظهور المكشوفة ،وإنما أصبحت بمثابة تقييد البشر بسلاسل الخوف من انعدام ادنى مقومات الحياة ،وهذا ما يشعر به الفلسطينيون الآن ،وهو شعور أقوى بكثير مما يشعر به المواطن الأمريكي من أصل أفريقي في ظل ما نعانيه من انعدام لكافة مقومات الأمن ،بالإضافة إلى شعور الخوف من إنهاء الوجود عن الحياة، ولذلك يمكن القول بأننا نحن من يعيش حياة العبودية الان بكافة اشكالها وليس هم.

إن ما نعيشه اليوم جميعا من انعدام لأدنى مقومات الحياة ،بالإضافة إلى انعدام الأمن مع  الشعور بالخوف من إنهاء الحياة عن الوجود هو نفس الشعور الذي كان يمتلك  عبيد القرن الثامن عشر كلما كان اقتيادهم للعمل في مزارع الاسياد والاغلال في أعناقهم ،والسلاسل في اقدامهم، مقابل اطعامهم مما يزيد من طعام عن حاجة هؤلاء الاسياد، ولكن لا بد من التوضيح هنا بأن الفرق ما زال واضحاً بين عبيد القرن الثامن  عشر وعبيد القرن الحالي ،وهو أن لا أحد من عبيد اليوم يسعى للخلاص من عبوديته للحفاظ على ما تبقى لهم من آدمية وكرامة ،كما سعى الى ذلك عبيد القرن الثامن عشر ،بل إن عبيد اليوم ما زالوا في حالة إصرار على العيش في ظل حياة لا كرامة فيها ولا حتى حرية ولا مساواة ،وهذا ما يعيشه الشعب الفلسطيني اليوم وفي المقدمة منهم أصحاب البشرة البيضاء الذين يسكنون القصور الان ويركبون أفخم أنواع السيارات، بل ويرتدون أيضاً أحدث موديلات الملابس وأبهاها ، بالإضافة إلى شريحة الموظفين الذين لا يمكن وصولهم إلى أعلى المراتب دون وصولهم إلى أعلى مراحل الانحطاط في الأدمية والكرامة الإنسانية في ظل ما نعيشه من انقسام واحتلال، فهل يمكن لنا أن نعترف بذلك ؟.

علينا ان نعترف جميعا باننا نعيش حياة العبودية اذا ما علمنا  بأن أشكال  العبودية وصورها لم تعد محصورة على أصحاب البشرة السوداء الذين عاشوا في اسطبلات لم تكن صالحة حتى للبهائم والاغنام ، وإذا ما علمنا أيضا بأن أشكال هذه العبودية ومظاهرها الحديثة يعيشها الشعب الفلسطيني الان ، حكومة ومؤسسات وحتى تنظيمات ، فلا حرية للحكومة هنا في قراراتها ،ولا كرامة أيضا أو استقلالية للمؤسسات ومن يعمل بها ،أهلية كانت او حكومية ،ولا مساواة  في الحقوق والواجبات أيضا بين من ينتسب للتنظيمات، وبين من يعمل في الأجهزة الأمنية التي تتبع تلك التنظيمات ،ولعل  المقرف في الامر الى درجة الاشمئزاز هو ان تجد  بان من يقمع ويعتقل ويقتل  المواطن العبد ،هو موظف عبد  مثله كان قد التزم بقرار سيده العبد أيضا ،حيث لا يمكن لهذا السيد ان لا يأمر بالاعتقال او التعذيب والقتل وهو الذي اصبح اكثر عبودية للمال وحياة الخدم والقصور، وهنا اعيد  مجددا ما كنت قد طرحته من تساؤل في مقدمة مقالي وهو من الذي يعيش حياة العبودية الان، هل المواطن الأمريكي هو الذي بتعرض للقمع والقتل والسحل بالشوارع والاعتقال من أجهزة امنية لا كرامة فيها ولا حرية او مساواة  بالإضافة الى الخوف من انهاء الحياة من الوجود ،ام  نحن الذين نتعرض لكل ذلك؟.

على الرغم من حالة الاحتجاج وتصاعد التظاهرات المصحوبة بالعنف في غالب الأحيان فان اجهزة الامن الامريكية كانت وما زالت ترفض قمع الشعب الأميركي او الصدام معه، بل أن كثيراً من أفراد أجهزة امن الولايات  المتحدة  كانوا قد اعلنوا  استقالاتهم اعتراضاً علي ما مارسه بعض زملائهم من حالات القمع ، فهل من أحد في أجهزتنا الأمنية والعسكرية ،سواء كان في السلطة ،أو في أجهزة امن حماس ،قد اتخذ نفس الموقف الذي اتخذه بعض الافراد في شرطة أمريكا ،أم أن العبودية للراتب والانقياد لصاحب البيعة خوفا من التصفية هي بمثابة الاستعباد الذي لا يمكن التحرر منه؟.

علينا أن نعترف جميعا بأن ما نشهده من أجهزة الأمن  الفلسطينية في بعض الأحيان ،وما تقوم به أيضا أجهزة أمن حماس من عمليات القمع والاعتقال والتعذيب داخل السجون هي نماذج لم يشهدها الشعب الأمريكي من أجهزته الأمنية حتى وهو في اشد حالات الاحتجاج والتظاهر في  الساحات والميادين ،كما لم يشهد الشعب الأمريكي حالات بتر الأقدام ،ولا حتى سياسة قطع الرواتب ،وهذه الحالات ما زلنا نعيشها اليوم والشواهد على ذلك كثيرة ،ولذلك يمكن القول باننا نحن لا غيرنا من يعيش حياة العبيد ، فلا أحد يتزاحم لافتراش بلاط القادة والمسؤولين طلباً للرضى والحاجة كما نتزاحم نحن الفلسطينيين على افتراش بلاط القادة ونتهافت كما هو تهافت الذباب ،اما  لمصافحتهم ، واما لالتقاط الصور معهم ،ولكن علينا أن نعترف ايضاً وقبل كل ذلك ،انه ما كان لنا ان نرتضي حياة الذل والمهانة ممن يحكمنا سواء هؤلاء الذين ارتضينا بهم او هؤلاء الذين ولوا انفسهم علينا ما لم ندفع انفسنا وباختيار منا للاصطفاف في طوابير بناء مستوطنات العدو مع تمنياتنا بازدياد اعداد تلك المستوطنات من أجل استمرار العمل بها وزيادة الأجور فيها ،فكيف لنا اذاً أن نكون من أصحاب المواقف ودعاة الحقوق، وكيف لنا ان نكون ايضاً من ادعياء حمايتها و الدفاع عنها؟.

نعم علينا أن نعترف بأننا نعيش جميعا اشكال وصور العبودية الحديثة والتي لم يعد لها وجود في عالمنا، لما تمثله من انتهاك صارخ  لقواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وللاتفاقيات والمعاهدات الدولية وللشرعية الدولية، وعلينا ان نعترف أيضا باننا الأكثر حاجة في تنظيم أنفسنا للدفاع عن اخر ما تبقى لنا من كرامة وادمية من اجل إعادة الاعتبار للثورة والهوية وصولا للاستقلال الوطني، ولذلك لا بد من القول هنا ،بانه اذا ما كان المواطن الأمريكي من أصل افريقي وهو الذي يعيش الحرية الان  كان قد أطاح بالأمس بتمثال من تاجر بأجداده في سوق العبيد قبل عقود، فمن الأولى بالمواطن الفلسطيني إذا ان يقوم بالإطاحة بكل من يتاجر به الان، ولكن لا يمكن له أن ينجح بذلك ما لم نعترف جميعا  باننا فعلا نعيش حياة العبودية، فهل نعترف؟.