ليلى عورتاني - النجاح الإخباري - في 24 أكتوبر عام 1975، تم الإعلان عن إضراب نسوي شامل في دولة آيسلندا، والتزمت ما نسبته 90% من النساء في هذا الإضراب الغريب! إنه لا يشبه أبداً أي إضراب نقابي أو عمالي، بل هو فكرة اجتاحت كل الدولة وجمعت بين نساء البلاد من كل الفئات والطبقات، واتفقن على رفض القيام بالأعمال المنزلية مدة يوم كامل، يوم كامل بدون (طبخ، تنظيف، تعليم الأطفال، القيام بشراء احتياجات المنزل)، وسمّي هذا اليوم بيوم الجمعة الطويل The long Friday .

في هذا اليوم الطويل اضطر الرجال على تحمل مسؤولية العناية بالمنزل والأطفال، العديد منهم أخذوا أطفالهم معهم الى العمل، وانتشروا في مطاعم البلاد لإطعامهم حيث لا يوجد من يقدم لهم الطعام في المنزل. الإضراب الذي لم يتجاوز يوماً واحداً، تأثرت به كل العائلات خاصة أن الرجال لم يكن لهم ملاذا في ظل مشاركة زوجاتهم وأمهاتهم وجاراتهم ولم يتبق غيرهم للعناية بالمنزل والأطفال. 

الهدف من هذا الإضراب ليس فقط الاستراحة والنقاهة لمدة يوم، رغم أنه حلم كل إمرأة على وجه هذه الأرض، بل الهدف أعمق ويحمل عدة رسائل للمجتمع وللدولة.

المجتمعات على اختلافاتها لا تُقدر عمل المرأة المنزلي، وهذا ينطبق على مختلف الثقافات الموجودة بالعالم لكن بنسب متفاوته. يتم التعامل مع الأعمال المنزلة باستخفاف ودونية، وتُفرَز هذه الأعمال للنساء تلقائياً وتصبح وظيفة دائمة حتى الممات. إن إضراب النساء في أيسلندا شل الحياة الأسرية بأكملها، وفتح العيون على الأعباء الجمّة التي تقوم بها المرأة سواء كانت ربة منزل او امرأة عاملة، وكيف أن المرأة عندما تقضي هذه الساعات يومياً في العمل المنزلي هي تتخلى عن جزء من أحلامها وطموحها في العمل والتعليم وتطوير ذاتها.

أما الرسالة الثانية فهي للدولة التي كانت آنذاك تميز بين أجور النساء والرجال في نفس العمل، رغم أن المرأة العادية تعمل في اليوم بمعدل 4-6 ساعات يومياً في أعمال غير مدفوعة الأجر. هذه الأعمال التي تتمحور حول تغذية العائلة والعناية الصحية والتعليمية هي ليست شأناً أُسرياً، بل لها أثر استراتيجي على اقتصاد الدولة، فمثلاً التغذية السليمة تساعد في تحسين صحة الأطفال الجسدية والنفسية وهذا يسهم في تخفيف عبء تكاليف العلاج عن الدولة، كذلك التعليم المنزلي المكمل للتعليم المدرسي سيكون له أثر كبير على ارتفاع نسبة النجاح الأكاديمي وهو أيضاً هدف استراتيجي لكل دولة. 

هذه هي أهم الرسائل التي حملها الإضراب النسوي في ايسلندا، إضافة الى أن المشاركة الواسعة خلقت حالة وعي جمعي لدى النساء، فتشكلت جماعات ضغط لتعديل رزمة من القوانين أهمها قوانين العمل والأجور التي أصبحت متكافئة وتساوي بين الرجال والنساء. وفي عام 2019 سجلت أيسلندا أعلى مشاركة نسوية في القوى العاملة في كل العالم حيث بلغت مشاركة النساء 72% حسب تقرير البنك الدولي.

العديد من المهام والأعمال التي تقوم بها النساء هي خارج الحسابات الاقتصادية الرسمية للدولة، لأنها تندرج تحت مسمى الأعمال غير مدفوعة الأجر أو الأعمال غير الرسمية. وقد قدّرت مؤسسة أوكسفام قيمة الأعمال غير مدفوعة الأجر التي تقوم بها النساء حول العالم بما قيمته 10.9 تريليون دولار خلال عام واحد، وتم احتساب هذا الرقم الهائل من خلال افتراض حصول المرأة على أجر ضئيل جداً مقابل عملها في المنزل. 

إن الاستهانة في الأعمال غير مدفوعة الأجر واعتبارها واجباً مرتبطاً بالطبيعة البيولوجية للمرأة هو ثقافة مجتمعية غير مبنية على أدلة علمية أبداً، والدليل أن الرجل يستطيع أن يمارس هذه المهام في إطار وظيفته في حال كان يعمل في مجال الطبخ والتنظيف والرعاية والتعليم وغيرها من المهام، لكن الفرق بأنه يقوم بها مقابل أجر. 

لا يقتصر العمل غير مدفوع الأجر على الأعمال المنزلية فقط، بل يمتد الى مجالات الزراعة والمشاريع العائلية وغيرها من الأنشطة الاقتصادية المتنوعة، تلك الأعمال التي تؤثر بشكل مباشر على رفاهية العائلة والمجتمع والدولة، للأسف لا زالت غير معترف بها في النشاط الاقتصادي العالمي، والمؤلم أكثر بأن الثقافة السائدة تتعامل بدونية مع تلك الأعمال كونها لا تتطلب تعليماً متميزاً وليس لها أي مقابل مادي أو معنوي. 

الأعمال المنزلية هي سبب رئيسي في عزوف النساء عن العمل مدفوع الأجر في فلسطين وارتفاع البطالة بين النساء، حيث اعتبرت ما نسبته 61.8 % من نساء الضفة وغزة أن الأعمال المنزلية هي السبب الرئيسي في عدم انخراطهن في سوق العمل، بينما 0% من الرجال في الضفة وغزة اعتبروا أن هذا سبباً قد يحول دون انخراطهم في الأعمال مدفوعة الأجر. هذه النتائح تم نشرها ضمن مسح القوى العاملة في فلسطين الذي نشره مركز الإحصاء الفلسطيني عام 2019، جدول 37 "التوزيع النسبي للأفرد خارج القوى العاملة وسبب البقاء خارج القوى (15 سنة فأكثر) حسب المنطقة والجنس". 

رغم كل ذلك، لا زالت المرأة الفلسطينية تضحي بجزء كبير من أحلامها وتحقق أحلام غيرها، ولا زالت تعتني بغيرها وتعمل خلف الكواليس بصمت وصبر وتجتهد غالباً بما يفوق طاقتها الجسدية والنفسية. أقل ما يمكن أن تحصل عليه هو التقدير والاحترام والاعتراف بإنجازاتها الكبيرة على المستوى العائلي والمجتمعي، تنتظر أن تحصل على استحقاقها القانوني كمواطنة كاملة الأهلية وإعطائها حقوقها ومكانتها التي تستحقها في القوانين المحلية كافة. من الضروري العمل على كافة المستويات لتغيير نمط التفكير الذكوري السائد الذي يرى المرأة قاصرة ومحدودة القدرات، حيث يتم ترسيخ هذا التفكير النمطي عبر الأجيال ولا أنكر بأن المرأة تسهم في كثير من الأحيان في إعادة إنتاج هذه المعتقدات. 

في يوم المرأة العالمي، أوجه رسالتي لربات المنازل المعطاءات بلا حدود، للنساء العاملات المثابرات، لكل امرأة تسعى وراء حلم قريب أو بعيد، لكل طالبة ومعلمة ومهندسة ومحامية وطبيبة وموظفة أقول: إفخري بنفسك لأن التحديات التي اجتزتها كبيرة، إطمحي بلا حدود، إفرضي نفسك، نافسي بكفاءة وقوة، تابعي حلمك بشغف ولا تتوقفي أبداً. 

كل عام ونساء فلسطين والعالم بألف خير