تحسين يقين - النجاح الإخباري - عصافير الدوري (البلدي) منشغلة بعالمها في المساحة الصغيرة، غير مكترثة لحركتنا عبر نقاط التفتيش، نود لو امتلكنا أجنحتها الصغيرة مرة لنطير بها لنخلص من إجراءات السفر: تفتيش الحقائب والأجساد...والروح..
تلتقط العصافير حبات حبوب العشب البري، ونقاط ماء تنز من مكان ما..
أتأملها لأحسّن مزاجي في أول السفر، ولكي تحملني على الانتظار..فماذا يفعل مثلي غير الاستسلام التام للانتظار..!
كم هي عدد المرات التي عبرت بها النهر شرقاً؟
صار النهر ملازماً لرحلاتي والسفر، وصارت عمان أول السفر وأول العودة.
كلما طرنا من مينائها الجوي ودعنا فيها الوطن؛ فبعض الأهل هنا وكثير من الوطن هنا، باعتباري أرى الشام موطني..
وكلما حط بنا طائر معدني كبير أرض الميناء نفسه، شممنا رائحة الوطن، هناك غرب النهر الصغير..
ترى ما الذي يميّز أرضاً عن أرض؟
الحبر السائل أم التراب!
والحبر السائل مداد الأقلام، حياة الأفكار، عناصر الأشياء، مميزات التراب والطين..
اختلاف في الطبيعة أو تشابه؟ تشابه الجغرافيا أم اختلاف التضاريس، وهل تستدعي التضاريس أفكارها؟ فما الذي يميز غرب النهر إذاً عن شرقه في الروح والفكر والقلب ما دام الغور هنا والواحة الكبيرة المقسومة بتماثل على الضفتين، تتلوهما تلال البرية هنا وهناك، من غرب الأولى جبال فلسطين الغربية، ومن شرق الثانية جبال الأردن الشرقية، ومجموع الغور والتلال والجبال إنما للنهر ينسب!
كثيرة هي مرات عبوري النهر الصغير العظيم، شرقا مسافرا إلى بلاد الله، وغربا عائدا من بلاد الله..
لكن سيظل للمرة الأولى ألقها الخاص: كان ذلك في صيف عام 1988 الحار جدا، وفي الغور (الفلسطيني-الأردني) الحرارة شبه نار، تسلق البيض فيها توفيرا للكهرباء..كنت في طريقي إلى عمان، لأعبر منها إلى مصر للدراسة، أتذكر دوما مشهد ختم التصريح..لم أصدق أن موظف الشرطة فعلها، كانت سلطات الاحتلال تعيد الكثير من الشباب المسافرين خارج فلسطين؛ فسنة الانتفاضة الأولى لما تنقضِ بعد..كدت أقول للشرطي: لا بدّ في الأمر مشكلة، دقق أكثر، ولا تحزن إن أعدتني لأنني مهيأ للرجوع..ثم كمن فعل فعلة ويريد الهرب، انطلقت للجزء الثاني من الرحلة..
جلست بجانب شباك حافلة الباص: سأعبر الآن نهر الأردن، وسأقطع الجسر، وستغني فيروز في أذني: يا نهر الأردن..
تجري بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية..
ثم..جسر العودة جسر العودة يا جسر الأحزان أنا سميتك جسر العودة..
ماء قليل مخضر آسن غير جار، عرضه صغير سطا العشب الكبير عليه، فلم يترك منه غير خط صغير، فهل لأجل ذلك يسمونه وادياً؟ لكن واد سليمان في قريتنا وقت المطر أعظم.. أين ذهب ماء النهر؟ أين اختفى وتبخر!
جسر صغير هو جسر الأحزان الذي تفاءل به الشاعر، باعتبار أنه سيأتي يوم يعود النازحون عليه إلى الضفة الغربية للنهر..
ظل للمرة الأولى ألقها الفريد، وظل جسر الأردن الذي رأته عينا قرويّ جسراً كبيراً، ورمزاً أكبر...!
..ترى ما الذي يميّز أرضاً عن أرض؟
الحبر السائل أم التراب!
أم تراه الماء!
عبرت النهر في ذلك الصيف اللاهب مع من عبروا، فتحولت النار برداً وسلاماً عليّ: سأكون حراً في بلاد حرة، وأستريح من عناء التصاريح وحذر الاجتياحات..
كم هي عدد المرات التي عبرت بها النهر شرقاً؟
ليس مئات المرات بالطبع، بل عشرات، وقد بقيت فترة قادراً على معرفة عدد المرات العابرة، وكثيرا ما أخذت بتأمل البطاقة الخضراء لأتذكر أول مرة سافرت فيها، كي أمضي الوقت وأخفف من وقع انتظار عبور النهر. بعد حوسبة البطاقة لم أعد أحاول ممارسة هواية عدّ السفرات.
عمان كيف بدت في صيفها في يوم من آب اللهاب؟؟
انطلقنا عن طريق وادي شعيب وناعور والسلط كان طريقاً أخضر خفف من غبار الغور الجاف صيفاً..صعدنا الجبال فزارتنا نسمات هواء..كانت غوراً وتلالاً وجبالاً، تتماثل مع تضاريس جغرافيا الغرب..
أول السفر كأول الحب الذي ذكره محمود درويش كمبرر وجودي لاستحقاق الحياة على الأرض: من قوله على هذه الأرض ما يستحق الحياة..كجملة شعرية افتتح بها القصيدة إلى تفصيل ما يجعل للحياة معنى، وصولاً إلى قوله أول الحب!
العبدلي كانت محطتنا، قبل أن نتوجه إلى الجبيهة وجبل النزهة لتبدأ بعدها رحلة الإعداد للسفر.
كان أولاد جيلي يرون في السفر شرق النهر اعترافاً وشرعية للولد المسافر، لأنه أولا سيرى بلاداً جديدة وثانياً لأنه سيحظى بقدوم أهل القرية الصغيرة للتسليم عليه وتهنئته بسلامة العودة.
عمان 1988، ليست عمان اليوم..كنت ولداً عندها؛ فما يجمع بين الولد والكهل أشياء كثيرة منها حب السفر، وما هو مختلف ربما يعود للعمر..للتجارب..
مشيت باتجاه شرق عمان هابطاً قليلاً من تل الشميساني، وقد صار مجمع بنك الإسكان ببنايته المميزة والتي كانت قبل ثلاثة عقود مشهورة في محيطها، الآن كثرت المباني العالية..بالنسبة لي كان مشهد البناية دالاً على عمّان، لكثرة مشاهدتنا لها في التلفزيون الأردني.
كنت قد اعتدت أخذ هذا المسار من عمان البلد أو من العبدلي إلى الجبيهة أو إلى جبل النزهة، ومن النزهة كنت أمشي حتى دوار الداخلية سابقاً، لأركب بالباص إلى الجبيهة، حيث كنت أوزع إقامتي بين الجبيهة وجبل النزهة.. لذا فالطريق مألوفة لي، وهي إذ تشكل مجالا للاكتشاف لباكنام وبيتر، فهي تستدعي ذكرياتي كشاب صغير.
كيف توسعت عمان، من البلد في الثلاثينيات والأربعينيات، وكيف صارت العبدلي مركزاً للمسافرين والمتنقلين داخل المملكة، وكيف ازدهرت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات..فعلى مدار نصف قرن كانت العبدلي مركزاً جذاباً للبشر..ثم الأحياء الراقية في الشميساني وجبل الحسين وجبل عمان، في السبعينيات حتى التسعينيات، ثم غرب عمان من الثمانينات حتى الآن..قد تكون تواريخي تقريبية غير دقيقة، لكنها في المكان والزمان تضيء شيئاً ما لمستطلعين..اقتربت من العبدلي، ومررت من جانب مبنى الأمة، البرلمان ومجلس الأعيان، أذكر تمثالاً هنا لفارس يمتطي صهوة جواده، كان هنا..اكتشفت أنه جرى تغيير في الطريق أبعد التمثال إلى الداخل، وما كنت لأكتشف التغيير لو لم أكون قد مشيت..تجولت..
كان التمثال رمزاً للثورة العربية الكبرى..أو هكذا ظننت..
كنت فتى قروياً حين زرتها، وأنا الذي كان معتاداً على أن يتوه في أصغر المدن كرام الله، فكيف سأستطيع التنقل هنا؟
وقد سعدت بالنظام واحترام الدور، فالنظام هنا مثار احترام الزوار، صحيح أن الوضع تغير.. لكن عمان رغم كثرة سياراتها ما زالت تحترم نظام السير..
كانت أجرة تاكسي جبل النزهة إلى عمان 7 قروش ورغيف الشاورما 15 قرشاً..وتذكرة السينما نصف دينار أو 35 قرشاً..أي أن مصروفي اليومي بعمان لم يكن ليتجاوز الدينار بما فيها الكنافة..كنافة حبيبة..وجريدة «الرأي» التي كنت أقرأها في المسرح الروماني الرائع في عمان البلد، وقد كنت أمرّ على بائع التمرهندي وخبيصة الخروب (تشبه المهلبية)..لأشرب وأتحلى..
في المسرح الروماني الذي أحببت زيارته عندما رأيت صوره وأنا طفل، كنت أجلس لأقرأ الصحيفة، مركزاً على أخبار الانتفاضة الأولى، ثم صرت أعتاد قراءة المقالات، وقد لمست وقتها أسلوب الكتاب السلس، ثم أتأمل في المسرح منادياً على من كان هنا ممثلاً وعازفاً ولاعباً..أين ذهبوا؟
كنت أحب التسوق في عمان، وتناول الشاورما، وشراب قصب السكر..ودور السينما القديمة جداً كأنها تتهالك قدماً..كنت أحب قضاء الوقت فيها شتاء، بعد ركض تحت مطر رائع في عمان البلد..كان لدي من الوقت لأقضيه كما أشاء..فساعتان في السينما لا تضرّ، مع السجاير والشتاء في الخارج..
اكتشفت أن دور السينما متوسطة وصغيرة ما عدا واحدة تعتبر كبيرة، وانتبهت أن لا نساء يرتدن دور السينما، ثم اكتشفت أسرار دور السينما بوسط البلد.
أتذكر تجوالي ما بين جبل الحسين ومخيم الحسين، وجبل النزهة، وانتباهي للمفارقة العمرانية ما بين بيوت وبيوت، وكيف يفصل خط ما بين عالمين: عيش المدينة العادي وعيش اللاجئين، واستغربت وجود ألواح الزينكو.

[email protected]

 

الايام