عبد الغني سلامة - النجاح الإخباري - أهم ما يميز الإنسان عقله الحر الواعي.. إرادته الحرة جعلته يبتكر أعقد النظريات، ويبدع أروع الأعمال في العلوم والآداب والفنون. تفكيره الحر، سما به عن بقية المخلوقات، ولو كان تفكيره غريزيا آلياً سكونياً، لظل ساكنا مثل مجتمعات النحل، والتي برغم دقتها وانضباطها إلا أنها لم تتطور، ولو كان تفكيره مقيداً لما عرف البحث والتأمل، ولما أمضى الساعات متردداً في اتخاذ قرار ما، سواء كان خطيرا كإعلان الحرب، أو بسيطاً كشرب الماء.. دماغ الإنسان هو المعمل الذي تجري فيه كل هذه العمليات المعقدة، فيه تُتخذ القرارات، وهو من يحدد تصرفاتنا، ولماذا نحب ونكره.

يحتوي على مائة مليون خلية عصبية وعشرة أضعافها من الخلايا الغروية، ضمن شبكة معقدة لا تضاهيها أحدث الحواسيب العملاقة، وأهم ما يميزه القشرة الدماغية التي لا تتوفر عند بقية الحيوانات.

ولدى الإنسان دماغان: أيمن، يسيطر على الجانب الأيسر من حركة الجسم، ويرتبط بالموسيقى والفن، والاستجابات الانفعالية كالخوف والفرح والحزن. وأيسر، يسيطر على الجانب الأيمن من حركة الجسم، ويرتبط بالكلام واللغة والمنطق والرياضيات والوقت والتفاصيل. 

وحسب بروفيسور الأعصاب الروسي «سافيليف»، تتكون بنية الدماغ من قطاعات، كل قطاع مسؤول عن جانب معين من وظائف الجسم؛ المنظومة الحوفية (جذع الدماغ) مسؤولة عن السلوك الغرائزي والعاطفي، وقشرة الدماغ الأمامية مسؤولة عن التصرفات الواعية والتفاعلات الاجتماعية. 

المنظومة الحوفية (وهي الأقدم في تاريخ تطور الدماغ) تميل دوما إلى توفير طاقة الجسم، لذا تتخذ القرارات الغريزية البدائية (السرقة مثلا)، بينما القشرة الدماغية الحديثة والتي ينفرد بها الإنسان، تميل إلى السلوك الواعي المنضبط (العمل مثلا)، وهذه الازدواجية في الأدوار تشبه معركة تدور رحاها داخل الدماغ الواحد (الصراع بين الخير والشر)، وكلما كانت القشرة الدماغية أنشط وأنضج يكون سلوك الفرد أكثر إنسانية وتحضراً.. وإذا غلبت المنظومة الحوفية تصرف الفرد بصورة بدائية، ولأنَّ تلك البنية الدماغية فطرية، فهذا يعني أن الدماغ هو من يقود الإنسان ويوجهه، وهذا يتنافى مع ادعاءات حرية الفرد وإرادته المطلقة.

يقول «سافيليف»: بعض المجرمين صاروا مجرمين لأن المنظومة الحوفية في أدمغتهم غلبت القشرة الدماغية، ولكن الظروف الاجتماعية المحيطة تضبط وتكبح تصرفاتهم. 

ويضيف: في مسيرة تطور الإنسان، نمت الجبهة الأمامية في الدماغ، وصارت مسؤولة عن السلوك الاجتماعي، وهذه العملية تبدأ منذ الطفولة، وتستمر حتى سن الثلاثين. في سنواته المبكرة يحتاج الطفل إلى إطعامه، وهذا دور كانت تقوم به الأم وحدها، ثم توارث الأب هذه الصفة، وصار يشارك أطفاله الطعام، ثم تطورت حتى صار يشارك الغرباء الطعام، وهي مسألة كانت هامة ومصيرية للبقاء على قيد الحياة في ذلك الزمن السحيق والصعب، وقد استغرقت هذه الرحلة من التطور ملايين السنين، حتى نضجت الجبهة الدماغية الأمامية، والتي حولت الإنسان إلى كائن اجتماعي.

في حالات الاسترخاء والكسل يستهلك الدماغ فقط 9% من طاقة الجسم، وهذا مريح، ويشعر الفرد بالغبطة والسعادة، بفعل هرمونات الأندورفين التي يفرزها الدماغ، وتتحول لدى البعض إلى حالة إدمان، فهي تشبه عمل المخدرات.. وفي حالات التفكير يستهلك الدماغ 25% من طاقة الجسم، وهذا مرهق للدماغ والجسم على حد سواء، وإذا استمر لفترة طويلة يصاب الفرد بالإنهاك العصبي.. لذا يتجنب الإنسان عادة التفكير ما أمكنه ذلك؛ فتراه يفضل المواضيع المسلية والخفيفة والأخبار المشوقة على القضايا الفكرية والجادة.

لذا، وحسب «سافيليف»؛ وجد الناس راحتهم في الجانب الأسطوري من الأديان، لأنها تمنح الإنسان شعوراً مؤقتاً بالسعادة، أي من خلال جعله يتوقف عن التفكير، وبالتالي توفير الطاقة، فلا حاجة له للإجابة على الأسئلة الوجودية والفلسفية المعقدة (هذا ينطبق على البسطاء، ولا يتعارض مع وجود نخب من المتدينين مفكرين وعباقرة)، ولا حاجة للبحث عن ملذات الدنيا التي يصعب الحصول عليها، خاصة من قبل الفقراء، لأن الحصول عليها يستوجب التفكير والتعب، وبدلا من ذلك، ينشغل دماغ المؤمن بالطقوس والشكليات التي لا تحتاج تفكيراً، مع الوعد بالحصول على تلك الملذات في الحياة الآخرة. وكلما زادت الطقوس، وتحول الإيمان إلى حالة عاطفية، تقلص عمل الدماغ.

ومع أن دماغ الذكر البالغ يزن أكثر من دماغ الأنثى البالغة، إلا أن هذا لا يعطيه أي ميزة تفوقية؛ فكبر الدماغ ليس معياراً لقياس القدرات العقلية، فمثلاً عند قياس وزن دماغ «إيفان تورجينيف» بعد موته (وهو كاتب روسي عاش في القرن التاسع عشر) تبين أن وزنه 2.012 كغم. وعند قياس وزن دماغ «أناتول فرانس» (وهو كاتب فرنسي نال جائزة نوبل) تبين أن وزنه 1.017 كغم فقط.. علماً بأن متوسط وزن دماغ الإنسان البالغ 1.3 كغم (يعادل خُمس دماغ الفيل).

والدراسات الحديثة تشير إلى أن الدماغ الأيسر لدى الإناث يتطور بسرعة أكبر من الدماغ الأيمن مقارنة مع الذكور. وأن مستوى هرمون التستستيرون لديهن أعلى، ما يجعلهن أكثر خوفا وخجلا وابتعادا عن المغامرة والعنف والجريمة. لذا اقترنت الحروب والبطش والتطرف بالذكور. 

وبالنظر إلى سلوك الإنسان وتصرفاته سنجد الأمر أشد وضوحا، فإذا كان العقل يتردد في اتخاذ قرار ما، فإن النفس الإنسانية تتنقّل بين الحدّين الأقصى في التطرف، أي من قعر الرذيلة إلى ذروة الفضائل وقمة الأخلاق. حيث نجد التناحر بين الميول والاتجاهات الخيّرة والميول الشريرة قابلاً للوصول لأقصى درجات التأزم، فقد يتحول الإنسان من مجرم منحط، إلى شخص ممتلئ بكل معاني الإنسانية، والعكس صحيح. 
ومثلما أوصلنا الدماغ إلى العلوم والتكنولوجيا والفلسفة، أوصلنا إلى الحروب والتدمير.

معارف الإنسان اليوم تفوق بدرجات هائلة ما كان عليه قبل مئات السنين.. اليوم طالب في المدرسة لديه معلومات وفهم في الفيزياء والكيمياء وجيولوجيا الأرض، وكائناتها، وتاريخ الشعوب وثقافاتها.. بما يزيد عشرات المرات عن أذكى العباقرة وأشهر الفلاسفة في سالف الزمان. 

ذكاء الإنسان الذي مكّنه من صناعة النسيج وصهر المعادن واختراع الرافعة والكتابة قبل الثورة العلمية بآلاف السنين، لا يُقارن بذكائه اليوم

.. ولكن في المستقبل ستتغير الصورة، على المستوى الفردي ستتقلص قدرة الإنسان على الحفظ وعلى البحث والتفكير، لأنه سيلجأ للتخزين في ذاكرة الأجهزة بدلا من ذاكرته الشخصية، وسيلجأ إلى محركات البحث، وهذا سيقلص من ذكائه.. ولكن على المستوى الجمعي سيصل ذكاؤه درجات رهيبة.
 إلى أين سيقودنا هذا الدماغ؟ لا أحد يعلم سوى الله. 

الايام