عريب الرنتاوي - النجاح الإخباري - طبول حرب أميركية ثالثة في الشرق الأوسط، تُقرع بقوة هذه الأيام، والتوتر بين جمهورية إيران الإسلامية والولايات المتحدة الأميركية، دفع البلدين إلى الوقوف عند حافة الهاوية، فيما برميل البارود الضخم، ينتظر شرارة واحدة للانفجار... لكن مع ذلك، ما زالت الرهانات معقودة، والآمال معلقة، على إمكانية تفادي الحرب، والعودة إلى طاولة المفاوضات، وانتصار الدبلوماسية الهادئة على قرع الطبول المزعجة.
الاتهامات المتبادلة بين البلدين، بلغت ذروتها، مُعمّقة «فجوة الثقة» العميقة أصلاً بينهما. واشنطن تتهم طهران بالتحضير لضرب أهداف أميركية وحليفة، والأخيرة تتهم الأولى، أو «تيار صقري» من ضمن إدارتها، بالاستعداد لشن حرب على إيران، تستهدف «تغيير النظام» وليس «تغيير السياسات» فحسب، كما يقول المسؤولون الأميركيون ويرددون من دون كلل أو ملل.
الطرفان لا يريدان الحرب، بيد أنهما كليهما لا يسقطانها من حساباتهما. المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، استبعد الحرب، وقال: إن إيران لا تريدها، وإن واشنطن كذلك لا تريدها. أما الرئيس الأميركي فقد استبق «تيار الصقور» في إدارته، وفتح «قناة سويسرية» أمام الدبلوماسية، لكن محاولته هذه تصطدم بموقف إيراني متصلب، لا يريد التفاوض مع هذه الإدارة، ولا يريد الحرب معها، في استعادة نادرة لحالة «اللاحرب واللاسلم» التي طالما طبعت بعض أزمات المنطقة الأكثر استعصاء.
وعلى الرغم من تراجع طرفي الأزمة المتفجرة، خطوة واحدة للوراء عن «حافة الهاوية»، إلا أن عواصم الإقليم ما زالت تحبس أنفاسها، فآخر ما تحتاجه المنطقة في هذه المرحلة الحبلى بالصراعات والحروب والاستنزافات، هو حرب جديدة، شاملة ومدمرة حال وقوعها، ومن غير المتوقع أن تبقى تداعياتها محصورة في إيران أو بالمواقع الأميركية في المنطقة فقط.
وتجتهد مراكز البحث والخبراء والسياسيون في استعراض «سيناريوهات» الحرب المقبلة، في حال خرجت التطورات عن السيطرة، عن قصد أو دونه، صدفة أو بفعل فاعل (طرف ثالث)، وحدث ما لا تُحمد عقباه، في محاولة من هؤلاء جميعاً، لوضع المسألة برمتها في «ميزان الربح والخسارة»، واستشراف ما يمكن أن تفضي المواجهة، وهنا يمكن التفكير بجملة من السيناريوهات، أهمها ثلاثة:

سيناريو الضربة المحدودة
كأن تقوم الولايات المتحدة باستهداف القطع البحرية الإيرانية التي تم تزويدها بالصواريخ (لأغراض دفاعية كانت أم هجومية)، أو ضرب أهداف في الداخل الإيراني. هنا يمكن افتراض واحد من خيارين يمكن أن تقدم عليهما إيران:
الأول: القيام بردة فعل مماثلة في القوة ومعاكسة في الاتجاه، كأن تتعمد اختيار أهداف غير موجعة لواشنطن، واستهدافها مباشرة أو عبر جماعات مسلحة ومليشيات محسوبة عليها، كما أن المراقب يمكن أن يفترض قيام إيران بالرد على الولايات المتحدة، عبر ضرب أهداف لحلفائها في الإقليم وليس بضرب أهداف أميركية، وبهدف احتواء ردة الفعل الأميركية، وقطع الطريق على أي احتمالات وتداعيات غير مرغوبة.
والثاني: امتناع إيران عن الرد والاكتفاء بالتشديد على حقها في الرد «في الزمان والمكان المناسبين»، تماماً مثلما تكرر عليه الحال في سورية، حيث امتنعت إيران عن الرد على أكثر من مئتي ضربة جوية وصاروخية إسرائيلية ضد أهداف إيرانية موزعة على عموم الأراضي السورية.
في كلتا الحالتين، يمكن أن يفضي «التحرش بالقوة العسكرية» إلى تسريع التدخلات الدولية وتفعيل الدبلوماسية وزيادة فرص التئام مائدة المفاوضات، وهو أمر ترغبه إدارة الرئيس ترامب بقوة، وترفضه إيران بقوة كذلك، لا سيما مع هذه الإدارة، وربما بانتظار نتائج انتخابات 2020 الرئاسية. ويمكن أن يفضي بالقدر ذاته، إلى الانزلاق إلى «قعر الهاوية».

سيناريو تقليع الأظافر والأنياب
كأن تستهدف القوات الجوية والصاروخية الأميركية، مراكز القوة والردع الإيرانية، تحديداً منشآت برنامجيها النووي والصاروخي، فضلاً عن وحدات من الحرس الثوري المتورطة في نزاعات خارج إيران. هنا، لا يمكن لطهران أن تقف مكتوفة الأيدي، وسيكون لديها «بنك أهداف» أكثر عمقاً وتنوعاً، يشمل أهدافاً أميركية وأخرى حليفة.
كيف ستنتهي هذه المواجهة؟ ومن الذي سيوقفها؟ وما الذي سيوقفها؟ تلكم أسئلة عالقة في أذهان المراقبين، لكن الترجيحات الأغلب تشير إلى احتمال قيام إيران بضرب أهداف أميركية في الخليج وبحر عمان وعلى اليابسة في دول الخليج المقابلة، لا سيما إن انطلقت الطائرات أو الصواريخ الأميركية منها. فرص انتقال هذا السيناريو إلى «حرب مفتوحة وشاملة» هي الأعلى، ومن غير المرجح أن تلجأ واشنطن إليه، من دون أن تكون قد أتمت بناء قدرات عسكرية كافية في محيط إيران وعلى مقربة منها، وهو أمر لم يحصل حتى اللحظة، رغم الحشد البحري والجوي الأخير.
 سيناريو الحرب الشاملة والمفتوحة
كأن تعيد واشنطن سيناريو احتلال العراق (2003) وإسقاط النظام، وهو سيناريو يفترض حشد مئات ألوف الجنود الأميركيين، ومختلف صنوف الأسلحة ومدياتها، وربما يفضي إلى استخدام «أسلحة دمار شامل تكتيكية»، كما أن هذا السيناريو يتطلب مسبقاً بناء «تحالف دولي» كما حصل في العراق وأفغانستان، لأنه من المؤكد أن مجلس الأمن الدولي لن يمنح واشنطن التفويض الذي تحتاجه لشن الحرب الشاملة، وهو متطلب ضروري على أي حال، حتى إن منح المجلس الولايات المتحدة، تفويضاً للذهاب إلى حرب مع إيران.
لا وجه للمقارنة من الناحية العسكرية بين إيران والولايات المتحدة، بيد أن حرباً على هذه الدرجة من الاتساع، ستطلق كافة «شياطين الأرض» من مكامنها، وسيقع «الشرق الأوسط الكبير» برمته، في أتون فوضى شاملة، لا قِبَلَ لأحد على احتوائها أو السيطرة عليها. وثمة دروس ماثلة من تجارب الولايات المتحدة في الإقليم خلال العقدين الفائتين، فليس المهم كسب الحرب، وهي مهمة مضمونة في الغالب، لكن الأهم هو الاحتفاظ بـ»النصر المكلف». فالولايات المتحدة كسبت المعركة في أفغانستان والعراق، وأسقطت نظام القذافي، لكنها في المقابل، خسرت أو تخسر الحرب في نهاية المطاف. طالبان عادت بقوة إلى أفغانستان، وإيران بسطت هيمنتها على العراق، وليبيا تتحول إلى ملاذ آمن لكل قوى التطرف والإرهاب، ومصدر قلق وتهديد لكل جيرانها. وكل هذه المخاطر على عظمها، لا تقارن بما يمكن أن يكون الحال، في حال تفككت إيران وضعفت قبضة الدولة وعمّت الفوضى فيها، ومن خلالها إلى الإقليم برمته.
لا أحد يدري حقيقة ما الذي يجول في خاطر الإدارة الأميركية، وكيف سينتهي السباق بين «صقورها» و»حمائمها» نحو إيران وحولها.. لكن المؤكد أن الحرب إن اندلعت، ستكون لها عواقب كارثية، لا تقارن بكل ما شهدته المنطقة في العقدين الماضيين، لا من حيث شيوع حالة انعدم الأمن والاستقرار وتفاقم تهديد الإرهاب، ولا من حيث تدفق موجات جديدة من الهجرة والمهاجرين، ولا من حيث مفاعيل «مبدأ الدومينو» وتتالي مسلسل الانهيارات، ليشمل دولاً أخرى ومجتمعات جديدة في المنطقة.
لهذه الأسباب، وأخرى غيرها، يبدو من المرجح أن تلجأ الأطراف إلى تغليب خيار الدبلوماسية، إن لم يكن على المدى الفوري، فبعد حين من الوقت (بعد الانتخابات الرئاسية 2020)، فإيران ليست العراق، ولا هي أفغانستان أو ليبيا، وواشنطن اليوم، ليست كما كانت عشية حروبها السابقة، لا سياسياً ولا عسكرياً، فضلاً عن دخول الطبقة السياسية الحاكمة والفاعلة فيها، في «مزاج الانتخابات» وصراعاتها وحساباتها.