عبد المجيد سويلم - النجاح الإخباري - قبل عدة شهور فقط، كان الحديث عن الصدام السياسي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ووصول هذا الصدام إلى درجة أن تتعمّد إسرائيل تقويضها وليس مجرد ابتزازها ... كان يبدو مثل هذا الحديث مستبعداً أو مغالياً أو حتى «إعلامياً» وبعيداً عن الواقع.
اليوم يمكن القول بعد أن أقرّت الحكومة الإسرائيلية اقتطاع رواتب الأسرى والشهداء إن هذا الأمر قد دخل دائرة التداول السياسي، وأصبح الحديث عن مشروع إسرائيلي لتقويض السلطة الوطنية وارداً ومطروحاً، وربما أنه أصبح من الناحية العملية على سُلّم جدول الأعمال الإسرائيلي.
صحيح أن الحمّى الانتخابية تلعب دوراً محورياً في هذا الاتجاه، وصحيح أن في إسرائيل من يخشى عواقب هذا «التفويض»، إلاّ أن وصول الصدام بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة والمنظمة والسلطة والشعب الفلسطيني من جهة أخرى وتدرّجه وتصاعده وتدحرجه بالوتائر القائمة اليوم يمكن اعتباره كاتجاه ومسار موضوعي، بل وحتمي عند درجة معينة من احتدام هذا الصراع.
وإذا كان اليمين المتطرف في إسرائيل يخطط لتقويض السلطة الوطنية ويسير ويُسيّر الأمور بهذا الاتجاه اليوم، فإن هذا اليمين في حقيقة الأمر إنما يتابع مخططاً كان قائماً لديه، وانه أوصل هذه الأمور إلى هنا عن سابق معرفة وترصُّد ومكر.
قصر النظر عند بعض القوى السياسية وبعض الشخصيات الوطنية في رؤية معادلة الصراع الحقيقية بين المشروع الوطني الفلسطيني وبين المخططات الصهيونية أوحى وأوهم هذا البعض بأن السلطة الوطنية يمكن أن تكون كياناً تابعاً أو خاضعاً للمخططات الإسرائيلية.
لم يكن مشروع إقامة السلطة الوطنية إلاّ جزءاً من المشروع الوطني، ولم تكن السلطة لا اليوم ولا بالأمس إلاّ امتداداً لهذا المشروع، وهي لن تكون غداً إلاّ كذلك وباعتبارها ذراع المنظمة ونواة الدولة.
هكذا كان الأمر وهكذا سيبقى بغض النظر عن كل الملاحظات والمشكلات والنواقص والثغرات سواءً في بنيتها أو أدائها أو دورها.
توهم هذا البعض أن هذه السلطة هي أداة في يد الاحتلال، لأنه لم يدرك أن المسألة لا تتعلق بالتبعية بقدر ما تتعلق بميزان القوى على الأرض.
وتوهم أكثر حين لم يفهم أن مشكلات السلطة البنيوية نابعة من درجة اعتمادية الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال، لهذا الاحتلال وليس نابعاً من طبيعة السلطة ودورها.
ما معنى هذا البعض في أوهامه حين تخيّل أن هذه السلطة يمكن أن تخضع للابتزاز أو الإخضاع حين يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني وأهدافه الوطنية.
أما ما عدا وخارج إطار هذه الأوهام الناجمة عن قصور مفجع في فهم وإدراك معادلة الصراع من أساسها، فإن السلطة ارتكبت من الأخطاء ما يزيد وما يفيض على حدود المنطق وحدود المعقول، ولعلّ أهم وأكبر تلك الأخطاء هو تضخمها على حساب المنظمة وإضاعة وأحياناً هدر فرص تنموية من نوع مختلف عن المسار التنموي الذي انتهجته.
كما يؤخذ جدياً على هذه السلطة نزعتها الأمنية وفشلها في تقديم نموذج ديمقراطي فاعل كان بمقدوره (أي النموذج) أن يوفر علينا الكثير من المتاعب والأعباء.
لكن كل هذا شيء وعدم إدراك أن هذه السلطة هي في صدام مباشر مع الاحتلال ومخططاته شيء آخر. وحين تدنو ساعة الجدّ، أو ساعة الحقوق الوطنية، فإن هذه السلطة لا يمكن الا أن تكون حامية ومدافعة عن هذه الحقوق حتى وإن افتقرت للوسائل الكافية والشافية المطلوبة.
وهذه السلطة عند درجة معينة أو مراحل معينة من احتدام هذا الصراع لا يمكن الا أن تكون أحد أهم استهدافات إسرائيل ومخططاتها.
إسرائيل تعمل لكي تكون السلطة في خدمتها، وهي تحاول بكل الوسائل الناعمة والعنيفة، والسلطة لم تحسن دائماً بأن يكون أداؤها مناقضاً ومتصادماً مباشرة مع هذه المحاولات.
هكذا كان الامر دائماً.
أحياناً السلطة تصدت لإسرائيل، وأحياناً لم تتمكن. أحياناً هادنت وأحياناً أخرى ساومت، وحين اضطرت فجرت هبّات وانتفاضات وصدامات دامية.
فقط أصحاب المواقف الجامدة والمسبقة هم الذين لم يفهموا هذه المعادلة بكل ما تنطوي عليه من تعقيدات وتراكيب تبدو غامضة وملتبسة.
لقد حان الوقت لفهم أعمق لطبيعة المخططات الإسرائيلية، وحان الوقت لفهم أكثر عمقاً مما هو عليه واقع التصادم الموضوعي بين المشروع الوطني من جهة والمشروع الإسرائيلي من الجهة المقابلة.
مشروع تطويع السلطة وإخضاعها مشروع قائم على قدم وساق، ولكن مشروع مقاومة هذا المخطط من قبل المنظمة والسلطة والشعب الفلسطيني هو، أيضاً، قائم على قدم وساق. ولولا «صفقة القرن» لبقيت الأمور ملتبسة، ولأمكن الاستمرار في المواقف الواهمة والموهومة، ولاستمرت المواقف مسبقة الصنع في التداول والرواج.
حان الوقت لرؤية البرنامج الوطني باعتباره كتلة متراصة من الأهداف والحقوق، ومن القيم والأخلاقيات، ومن الأدوات والمؤسسات، ومن الأداء والسلوكيات.
وعلى هذا الصعيد الكلي المتكامل لدينا من الثغرات ما هو قاتل، ومن النواقص ما هو خطير، ومن القصور ما هو خارج إطار المنطق والمعقول. ومع ذلك لدينا ما هو عظيم وما هو شجاع وما هو كبير وحاسم.
لدينا التمسك بالأهداف والحقوق، ولدينا ما وصلت إليه فلسطين من حقيقة راسخة في الواقع الدولي، ولدينا من الدعم والإسناد ما هو أكبر وأعلى وأهم من كل الحواجز والسجون والحصار والمخططات والمؤامرات.
لدينا الإيمان الراسخ بالعدالة التي تمثلها فلسطين ولدينا الإيمان العميق بانتصار هذه العدالة.
لدينا واحد من أعرق شعوب الأرض وأكثرها انتماءً لوطنه وهويته وتاريخه، ومن أقدرها على العطاء والتضحية وافتداء الأرض.
لدينا الإعجاز الفلسطيني الذي تمثله المنظمة، باعتبارها ممثلة الشعب كله في كل مكان، وباعتبارها المجسّدة لأمانيه وحقوقه وأهدافه باعتراف كاسح من شعوب البشرية وبلدانها.
ولدينا الخبرة الكفاحية التي استمرت على مدى قرن كامل من الصراع دون أن تحقق إسرائيل بكل قوتها وتحالفاتها وأدواتها وجبروتها ما خططت له من تصفية حقوق هذا الشعب، بل ودون أن تتمكن من تحول هذه الحقوق إلى مركز اهتمام العالم بأسره.
آن الأوان للتراجع عن أوهام أن المنظمة أو السلطة أو الشعب الفلسطيني يمكن أن يقبل بأقل من حقوقه الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف.
أما تقويض السلطة كمخطط يمكن أن ينجح ويمكن إفشاله، وخلق البدائل ليس إلاّ أوهاماً على كل الأوهام الأخرى، وإسرائيل اليمينية المتطرفة ليست قدراً، وترامب وكل زبانيته المحلية والدولية وحتى الإقليمية، فهم جميعاً في مأزق كبير بسبب صلابة وشجاعة فلسطين.
أما أصحاب المشاريع الفرعية والمتفرعة، وأصحاب الأجندات العابرة والأيديولوجيات الظلامية والغابرة فليس لهم من دور حقيقي سوى أن يكونوا ذيلاً للمشروع الإسرائيلي سواءً فهموا ذلك أم عجزوا عنه.
وقد آن الأوان أن يتراجعوا وبسرعة عن أوهامهم وغيّهم وأطماعهم الصغيرة قبل فوات الأوان.
لأن اللعبة قد انتهت أو تكاد.