الخليل - بيسان الزبدي - النجاح الإخباري - خطوه تلو الأخرى تنتقل على رصيف البلدة القديمة في الخليل، شبة المعتم، تفوح منه رائحة البرودة، يعلوه سقف تسللت خيوط الشمس من ثقوبه لترسم بقع من الحياة على الأرصفة فتخلق فيها الدفء المفقود من جديد، وهذا حال "بياع الدفا"؛ الذي يركن في صدر محلّه التجاري بوسط سوق البلدة العتيقة، يمسكُ بين يديه المتجعدتين إبرة يحيك بها على قطع قماش رسومات تمتد لحقب تاريخية مختلفة، ليصنع ما يعرف بـ "اللحاف"، ويبيعه لمن أرادَ أن يشتري الدفء والأصالة، إنه السبعيني عبد السميع العسيلي.

تنهيدة العسيلي التي شقت طريقها بعدما رفع ظهره المتكور منذ ما يزيد عن خمسين عامًا في مهنته التي تكاد تندثر ليبدأ حديثة الملغم بالحنين للماضي: " منذ 50 سنة أعمل (منجّد) وأخيط اللحاف والمخدات، كان عمري 14 سنة عندما علّمني خالي (الصنعه)، وقتها تعلمت المهنة حتى لا نبقى بالشارع بعد أن دخل الاحتلال بلادنا وأغلقت مدارسنا".

الصوف أو القطن، قماش، إبرة، خيط، مكونات صناعة اللحاف الذي يخيطه المسن عبد السميع برسومات غالباً ما يجهل وجودها الزبون. منها الهلال، الطاووس، البقلاوة، المقص، وغيرها الكثير، بوزن وطول حسب الطلب، وغالباً ما يفضّل الناس الأخف وزناً والذي يتراوح وزنه من ( 4-5 كيلو).

خمسة عقود تفاصيلها طُبعت في وجه عبد السميع ليبدأ بتذكرها ومقارنتها بحال اليوم: " قديماً لم يكن هناك تدفئة مركزية فكان من شروط عقد الزواج خروج لحاف على الأقل مع العروس، لكن اليوم اختلف الوضع وأصبح هناك البديل من حرامات ووسائل تدفئة، وصار اللحاف من التراث".

أما الوجع الذي لا ينفك عن التوقف ويتشعب ليغطي البلدة، ليتجلى لدى العسيلي في قلة الرزق وانعدام الأمن ليعبر عنه ببساطة "ان ما اغنت بتستر"، ويعود عبد السميع ويستكمل مقارنته التي لم تقتصر على حال مهنته بل طالت حال السوق ايضاً، فمن نبض الخليل الاقتصادي الى سوق مقفر تفوح منه رائحة الموت المسقوف بأسلاك شائكة تفصله عن علم الكيان الإسرائيلي، محملّة بما يلقيه المستوطنون من قمامة وحجارة، فكانت الطوق الملتف حول عنق الحياة في البلدة، والدافع للعديد من التجار للهرب والخروج بحثاَ عن مكان رزق أكثر امناً.

والعسيلي كغيره تمنى الأمان لكن امكانياته حالت دون ذلك "من كثرة الاعتداءات التي نتعرض لها من المستوطنين كثيراً ما تمنيت الخروج من هذا الدكان لكن لم امتلك المال والقدرة على ذلك، فلن اترك محلي الصغير لمستوطن".

أشد كوابيس البلدة العتيقة تظهر في الأعياد اليهودية التي يزيد عددها عن تسعة أعياد، يستغلها المستوطنون للتنغيص على السكان والتجّار، فتتحول البلدة الى ساحة تجوال للمستوطنين بحماية من قوات الاحتلال بذريعة الاحتفال، فسرقة التجار وتخريب البضائع هي من ضمن الاحتفال ايضاً لتصل ذروتها في "عيد سارة" حسب وصف عبد السميع مما يدفعه وغيره من التجار لتعطيل أرزاقهم وإغلاق محالهم للحفاظ على محتوياتها.

الامتداد الاستيطاني المكثف والسريع الذي يلتف حول البلدة القديمة في الخليل وحواجز الاحتلال التي تستمر في التضييق على تجّار البلدة وزائريها، قللت عدد الزبائن وحالت دون انتعاش حركة السوق، لكن شهر رمضان المبارك شكل منفساً صغيراً للرزق فزيادة عدد الزائرين والتي يعتبرها عبد السميع زيارات فضولية بدافع تضييع الوقت أكثر منه بدافع ديني (زيارة الحرم الابراهيمي)، تساعد قليلاً في انتعاش الحركة، فغالبيه زبائنه هم من كبار السن الذين يدركون قيمة اللحاف وفائدته بالمقارنة مع منتجات اليوم حسب قولة " نادرا ما حجة ولدها بعز عليها تجيب فرشات بنفلهم وبصنع منهم اللحاف".

رغم ذلك فإن المتعة التي يشعر بها عبد السميع بحياكة اللحاف ورضا الزبائن عن جودته وأصالته كانت الخرم الصغير الذي أطلت منه السعادة فيقول: "الناس سعداء بما أصنع ليس لكونه تراثاً فقط بل لفائدته وجودته الممتازة".

ما يبقي عبد السميع وغيره من تجّار البلدة في خط المواجهة هي الكرامة، فيجد العسيلي كرامته في أرضه وبين أهله "كلنا يد واحدة وباقون حتى يأخذ الله الأمانة".