نابلس - فائق الحمدلله - النجاح الإخباري - كانت فترة الانتفاضة الاولى محفوفة بالمخاطر وكأنها قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، في ذلك الوقت ‏كنت أنا وزميلي ناجح أبو صفية ( مدير مركز الحاسوب) منهمكان في البحث عن بعض الوثائق، وخلال تلك ‏الفترة كان هذا الأمر يشكل مجازفة كبيرة كونه يعتبر مخالفة للأوامر العسكرية الاسرائيلية أثناء الإغلاق، ‏وبينما كنا نعمل فإذا بصوت خلفي يقول: (شو بتعمل؟)، فنظرت صوب الصوت وإذا به ضابط إسرائيلي ‏برتبة كبيرة يقف بالباب وأكمل قائلاً: "ألم تعلم بأن الجامعة مغلقة بأمر عسكري؟، "هات هويتك واتبعني على ‏المركز"، وتم حجزنا في المركز لمدة يومين متتاليين من الصباح وحتى المساء، وفي اليوم الثالث تم التحقيق ‏معنا وتم تسليمي هويتي، وهكذا استهل فائق حمدلله (أبوسمير) حديثه عن الجامعة.‏

وفي العام 1979 بدأت عملي في جامعة النجاح الوطنية حيث كان عدد الطلبة فيها لا يتجاوز ثمانمئة طالب ‏وعدد الحاصلين على شهادة الدكتوراه من أعضاء الهيئة التدريسية لا يزيد عن أصابع اليد الواحد. كان العمل ‏في الجامعة يمثل نقلة نوعية لي من حيث التعامل مع كافة أبناء الشعب من طلبة وأولياء أمور وعاملين وكافة ‏طبقات الشعب الفلسطيني ومؤسساته الوطنية والشعبية.‏

كانت بداية عملي في الجامعة في 24/7/1979 في العام التالي لإنشائها بوظيفة محاسب، ومع تطور الجامعة ‏في سنيها الأولى وازدياد عدد الطلبة والعاملين تسلمت وظيفة أمين الصندوق، وكانت الوظيفة شاقة حيث لم ‏يكن هناك أي من البنوك العاملة في فلسطين، كنا لا نتعامل مع البنوك الإسرائيلية الموجودة في نابلس، ‏وكانت الجامعة تحتفظ بأموالها لأغراض الإنفاق العام واليومي لدى شركة الزيوت النباتية والتي كانت بمثابة ‏البنك العامل لكافة التجار في مدينة نابلس، قدمت هذه الشركة دعماً مالياً للجامعة في بداية نشأتها، حيث  كانت ‏ترصده ضمن موازنتها السنوية وهي من الشركات التي آزرت الجامعة وأسهمت في تطويرها.‏

كانت الشركة تقع إلى الشرق من مدينة نابلس وكان يتوجب علي الانتقال من الجامعة إلى شركة الزيوت ‏لإحضار الأموال اللازمة للإنفاق العام، ورغم مخاطر حمل الأموال في ظل الاحتلال، وفقدان الأمان إلا أني ‏أحمد الله على انه لم تصادفني أي مشاكل خلال تلك الفترة، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الرواتب كان يتم ‏استلامها من الصندوق حيث يصطف العاملون أمام المكتب ويحصل كل منهم على ظرفه الخاص المدون ‏باسمه بعد أن يتم التوقيع على الكشف باستلام الراتب، وكثيراً ما  كنا نوصل الرواتب إلى العاملين في ‏منازلهم أيام الإغلاقات.‏

بالإضافة إلى عملي كأمين صندوق والذي استمر العمل به من العام 1981-1990، كلفت بالعمل كقائم بأعمال المدير المالي لمده سنتين تقريبا قمت خلالهما بتبويب الموازنة على أسس علمية وعمل نظام  محاسبي، وفي العام 1990 عينت بوظيفة مدير وحده الرقابة الداخلية حيث تم استحداث تلك الوحدة، وكان الهدف الأساسي من استحداثها هو التأكد من دقة البيانات المحاسبية وملاءمتها والمحافظة على أصول وممتلكات الجامعة، ويتضمن عمل الدائرة تدقيق حسابات الجامعة بما تشمله من إيرادات ونفقات، والتأكد  من صحتها وسلامة تطبيق التشريعات المالية المعمول بها وصحة المستندات والوثائق المعززة لها مع سلامة قيودها والتأكد من الاستخدام الأمثل للموارد المالية وفقا للأهداف والخطط الموضوعة وإبراز المخالفات والانحرافات ومعالجتها وبشكل يضمن المصلحة العامة والحفاظ على المال العام. وفي العام 2008 حصلت الجامعة على المرتبة الأولى بين كافة مؤسسات الوطن اثر التقويم الذي قامت به هيئة الرقابة العامة لمراقبة نظام الرقابة والتدقيق الداخلي وتقييم الأداء المعمول بها في مؤسسات الوطن.

الجامعة والاحتلال:

نشأت الجامعة في عهد الاحتلال الإسرائيلي وكثيراً ما وضع الاحتلال المعوقات أمام نشأة الجامعة وتطورها، ولا بد هنا من الإشادة بمواقف رئيس وأعضاء مجلس الأمناء في تلك الفترة لثباتهم على مواقفهم حتى وصلت الجامعة الى ما وصلت اليه في الوقت الحاضر.

كان الاحتلال لا يسمح بدخول مدرسين من خارج الأراضي الفلسطينية في الوقت الذي سمح به بدخول بعض منهم ممن أجبرهم خلال عبورهم على الجسر على التوقيع على وثيقة ( قرار رقم 854) تفيد بعدم انتمائهم إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وقد رفض المدرسون ذلك القرار وخاضوا نضالاً مريراً في سبيل ذلك وعادوا أدراجهم، وكانت الجامعة في عهد الاحتلال تعتبر معقلاً من معاقل منظمة التحرير الفلسطينية في الوطن".

ومن الإعاقات التي فرضها الاحتلال الإغلاقات المتكررة للجامعة بسبب أو بدون سبب حتى أنه تم إغلاق الجامعة لفترة أربع سنوات متتالية، تحدى الطلبة والعاملون هذه الإغلاقات وكانوا يقومون بالتدريس في المساجد والمدارس الخاصة ورياض الأطفال، وكثيراً ما كانت تقوم قوات الاحتلال بملاحقة الطلبة والمدرسين في تلك الأماكن واعتقال البعض منهم، واستمر الحال على ذلك الوضع حتى أذن بفتح الجامعة عام 1991، وكثيراً ما كانت سلطات الاحتلال تضع الحواجز على مفترقات الطرق التي تؤدي للجامعة للحيلولة دون وصول الطلبة والعاملين اليها، كما وأنها كانت تقوم باقتحام الجامعة ومصادرة موجودات مقرات الكتل الطلابية وبعض الطلبة والعاملين بها، كما وأنها كانت تقوم باقتحام الجامعة ومصادرة موجودات مقرات الكتل الطلابية وبعض مكاتب العاملين في الجامعة وكانت قوات الاحتلال تمنع الطلبة من القيام بالاحتفالات والمهرجانات الوطنية وإذا ما نجح الطلبة في إقامة مهرجان طلابي فإن سلطات الاحتلال وفي اليوم الثاني مباشرة تقوم باعتقال كافة القائمين على ذلك الاحتفال. كانت المعارض التي تعنى بالتراث الوطني الفلسطيني محظور إقامتها وكثيراً ما كان الاحتلال يصادر المعروضات في تلك المعارض.

لم تقتصر اجراءات الاحتلال الظالمة على العنصر البشري فقط، حيث أن سلطات الاحتلال لم تسمح بالتوسع العمراني للجامعة وكل  ما سمح به الاحتلال خلال تلك الفترة ورغم تدخل بعض الهيئات الأجنبية هو بناء مبنى الإدارة القائم حالياً داخل الحرم الجامعي القديم، وقد تعرض هذا البناء لإيقاف العمل به عدة مرات رغم الحصول على التراخيص اللازمة، وقد استمر العمل به لمدة ثماني سنوات بسبب الإيقاف المستمر، وأذكر أنه في إحدى مراحل البناء كان هناك صبة لأحد أسقف البناء وبينما كان يتم الإعداد  لتجهيز الصبة، وكانت قد حضرت سيارات الباطون من مدينة الطيبة من الداخل حيث لم يكن هناك مصانع للباطون الجاهز بالضفة، واصطفت لتفريغ حمولتها، وقد حضرت عشرة سيارات، وإذا بالأمر العسكري يحول دون إكمال الصبة مما اضطر السيارات إلى إلقاء حمولتها في الوديان القريبة من نابلس، وكثيراً ما كان جنود الاحتلال يقومون باعتقال العمال بحجة مخالفة الأوامر العسكرية.

بين الحصار والانتفاضتين

وفي يوم من أيام صيف عام 1992 وأثناء إجراء انتخابات مجلس اتحاد الطلبة أخذت قوات الاحتلال بالتسلل ‏والالتفاف حول الجامعة، كان الجميع مستغرقاً في إجراءات العملية الانتخابية، ومع بداية عملية ظهور النتائج ‏كانت قوات الاحتلال قد أحكمت حصارها للجامعة ولم تسمح لأحد بالدخول أو الخروج منها، وقامت بحصار ‏ما يزيد عن 3000 طالب ومئات العاملين داخل الجامعة ومنعتهم من المغادرة لمدة أربعة أيام متتالية، ومنذ ‏اللحظات الأولى لعملية الحصار كانت قد نفذت كافة المواد التموينية من الجامعة ومن المقاصف ومن مطاعم ‏الجامعة، حيث اعتاد ضامنوا المقاصف عدم الاحتفاظ بالمواد التموينية داخل الجامعة خوفاً من تكبدهم خسائر ‏فادحه نتيجة الإغلاقات، وكثيرا ما تعرضوا لمثل هذه الخسائر لتلف المواد التموينية وعدم السماح لهم ‏بإخراجها، فكانت الوجبة الرئيسية ولمدة ثلاثة ايام متتالية لكافة المحاصرين من طلبه وعاملين عبارة عن ‏نصف كأس من البليلة (حمص مسلوق) والتي نفذت باليوم الثالث للحصار، حتى أن أغلبية الطلاب لم تأخذ ‏نصيبها من البليلة مما اضطرها لتسلق أشجار الصنوبر المتواجد في حدائق الجامعة وقطف ثمار الصنوبر ‏لاستخراج النواة من البذرة حتى يسدوا بها رمق الجوع.‏

ومنذ اللحظة الأولى التي فرض فيها الحصار على الجامعة تم فصل الطالبات عن الطلاب في أماكن ‏مخصصة للنوم على الأرض أو النوم جلوساً، وتم استعمال الأحذية كمخدات. لا يمكن وصف ايام الحصار ‏بكلمات مكتوبة على ورق، فلقد كان لكل محاصر تجربته الخاصة التي يمكن أن يرويها بطريقته.‏

وأخيرا وافقت سلطات الاحتلال على فك الحصار مقابل إبعاد كوكبة من نشطاء الطلبة وعددهم خمسة ‏ويتقدمهم الشهيد عبد الله داود ومنهم بلال دويكات. وقد تم وداعهم في احتفال مهيب حيث اصطف كافة ‏المحاصرين من أمام باب مبنى الإدراة وحتى البوابة الغريبة يهتفون بسقوط الاحتلال وملوحين بأيديهم ‏لوداعهم والدعاء  لهم  بسلام الوصول ولقاء قريب في ربوع الوطن، وما أن تمت مراسم الاحتفال بوداعهم ‏حتى تم رفع نظام منع التجول عن مدينة نابلس، والذي كان قد فرض عليها منذ اليوم الأول للحصار لأن ‏أهالي المدينة حاولوا رفع الحصار بتوجههم للجامعة مما جعل سلطات الاحتلال تفرض نظام منع التجول خوفا ‏من المظاهرات العارمة التي كانت تعم مدينة نابلس، وما أن أعلن عن انسحاب الجيش الإسرائيلي حتى ‏اكتظت الجامعة بالجماهير من المدن والقرى المجاورة، كلُ يبحث عن قريب أو قريبة له تواجدوا في هذا ‏الحصار وقد حصلت حالات إغماء كثيرة تم نقل بعضها إلى مستشفيات المدينة أثناء الاحتفال بتوديع المبعدين ‏من شده الانفعال. وخلال الانتفاضة الثانية وفي عام 2000 قامت سلطات الاحتلال باغتيال أعداد كبيرة من ‏القيادات الطلابية في هذه الانتفاضة بحجه قيامهم بإنشاء خلايا مسلحة لمقاومة الاحتلال.‏

كما قامت قوات الاحتلال بمحاصرة المدينة لمدة طويلة مما استدعى الطلبة والعاملين إلى المبيت داخل مدينة  ‏نابلس لفترة حيث قامت إدارة الجامعة باستئجار عدد من الشقق، وكنا خلال الحصار ننتقل مشياً على الأقدام ‏وبين الجبال لمسافات طويلة للوصول إلى الجامعة ولا يوجد طريق أو مسلك ترابي يؤدي إلى مدينة نابلس ‏إلا وسلكناه على مستوى الجهات الأربع، وكنا في بعض الأحيان نلتف من غور الأردن للوصول إلى مدينة ‏نابلس، وكذلك استعملنا سيارة الإسعاف لاجتياز الحواجز بحجه أننا ذاهبون إلى المستشفيات، وأحيانا كنا ‏ننجح في ذلك وأخرى نفشل في الوصول إلى المدينة، وكثيراً ما كنا نتعرض لإطلاق النار علينا، وقد تعددت ‏أسباب الوفيات بين الطلاب ومنهم من استشهد برصاص جيش الاحتلال ومنهم من غرق في الوديان المحيطة ‏بمدينة نابلس، ومنهم من مات إثر سقوطه من منحدر وارتطام رأسه بالصخور أو في حوادث السير أثناء ‏هروب السيارات من ملاحقة الجيش الإسرائيلي. كانت تلك الفترة مرعبة إلا أننا كنا نصر على الوصول ‏لتأدية رسالتنا وكنا نشعر بالفخر والاعتزاز لتحدينا الأوامر العسكرية وكسرنا الحصار والوصول إلى أماكن ‏عملنا.‏