حسن نافعة - النجاح الإخباري - أخيراً اعترف دونالد ترامب أن عزله من منصبه لم يعد أمراً مستبعداً ويبدو أنه بدأ يدرك أن الراغبين في الخلاص منه لديهم من العزيمة والإصرار ما يجعل من احتمال نجاح مسعاهم أمراً ليس فقط وارداً وإنما مرجحاً أيضاً. ومع ذلك فما زال لدى ترامب ما يكفي من الغرور، وربما من عدم الاتزان النفسي أيضاً، لحمله على الاعتقاد بأنه ما زال قوياً وقادراً على إلحاق الهزيمة بكل خصومه. فقد لجأ ترامب في الوقت نفسه إلى أسلوب التهديد والتخويف من مغبة ما قد يترتب على عزله من آثار كارثية بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي، أقلها في رأيه انهيار البورصة وارتباك وتخبط أسواق التجارة والمال وتحول معظم الأميركيين إلى فقراء يتسولون المساعدة من الغير بعد أن كانوا أغنياء العالم وسادته! وإن دلَّ ذلك على شيء فإنما يدل على أن ترامب ما زال يعتقد بأن ما يتعرض له حالياً من حملات تشهير يعكس وجود مؤامرة كبرى من صنع خصومه في الداخل والخارج، وليس بسبب أخطاء قاتلة ارتكبها بنفسه قبل وأثناء وبعد انتخابات الرئاسة الأخيرة. في تاريخ النظام السياسي الأميركي سوابق لمحاولات جرت لعزل الرؤساء، نجح بعضها وأخفق البعض الآخر، أشهرها محاولة ناجحة لعزل الرئيس نيكسون عام 1974 وأخرى فاشلة لعزل الرئيس كلينتون عام 1998. ففي آب (أغسطس) 1974 اضطر الرئيس نيكسون إلى تقديم استقالته، بعد أن ثبت بالدليل القاطع ضلوعه في عملية تجسس تعرَّض لها الحزب الديموقراطي أثناء اجتماع قياداته في «مجمع ووترغيت» إبان حملة الانتخابات الرئاسية لعام 1972، وبعد أن شرع مجلس الشيوخ في اتخاذ إجراءات محاكمته تمهيداً لعزله. وكاد الرئيس كلينتون أن يلقى في العام 1998 مصير نيكسون بعد أن وجه له مجلس النواب اتهاماً رسمياً بالتزوير والكذب ومحاولة تعطيل سير العدالة في قضية مونيكا لوينسكي، متدربة البيت الأبيض التي ارتكب معها فضائح أخلاقية داخل المكتب البيضاوي نفسه، ثم شرع مجلس الشيوخ بالفعل في اتخاذ إجراءات محاكمته. ولولا مسارعة كلينتون إلى الاعتذار علناً عن الإدلاء بمعلومات خاطئة إبان التحقيقات التي جرت حول القضية لما تمكَّن من النجاة والإفلات من مصير بائس. ما يواجهه الرئيس ترامب حالياً يبدو مختلفاً نوعياً عن كل السوابق المماثلة، وذلك من زاويتين رئيسيتين على الأقل: الزاوية الأولى: تتعلق بالمناخ السياسي المحيط بالتحقيقات القضائية الجارية حالياً حول قضية التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية للعام 2016، والتي تجري في أجواء سياسية تتسم بالاحتقان الشديد. فمنذ اللحظة الأولى لدخوله البيت الأبيض، بدأ ترامب يستفز بتصرفاته وتصريحاته شرائح مهمة من قلب النخبة الأميركية، كالصحافيين والكُتاب وصناع الرأي، بل ولم يتردد في الدخول في صدامات مباشرة عنيفة مع مختلف ممثلي أجهزة الدولة العميقة، كالمؤسسات الديبلومسية والأمنية والقضائية. وكانت الحصيلة صدور سبعة كتب تعالج جوانب مختلفة من شخصية ترامب المركبة وغير المريحة وتتقصى شبكة المصالح التي تربطه بالدائرة الضيقة اللصيقة به، كان أولها كتاب «النار والغضب» لمؤلفه مايكل وولف الذي استقى معظم معلوماته من بانون، أحد أصدقاء ترامب المقربين في البداية ومساعده السابق للشؤون الإستراتيجية، وآخرها كتاب «المعتوه» لمؤلفته أوماروسا نيومان، مساعدته التي قام بفصلها من البيت الأبيض منذ بضعة شهور. وبين الكتابين توجد خمسة كتب أخرى بعضها من تأليف أسماء لامعة في دنيا التشريع والأمن والديبلوماسية، من بينها كتاب لجيمس كومي، مدير الاستخبارات المركزية السابق، وآخر لجون ماكين رئيس لجنة الدفاع في مجلس الشيوخ الذي رحل عن عالمنا منذ أيام، وثالث لمادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية السابقة. تبدو صورة ترامب، كما تعكسها هذه الكتب، منفرة إلى درجة دفعت ترامب، على سبيل المثال، لوصف مساعدته السابقة، نيومان، بأنها «مختلة العقل ومن طبقة وضيعة وكلبة»، أما هي فلم تتردد في أن تكيل له الصاع صاعين حين وصفته بأنه «شخص معتوه وعنصري ولديه أبناء غير شرعيين يحرص على إخفاء أسمائهم»! وتلك أجواء تختلف تماماً عن الأجواء السياسية التي كانت سائدة إبان التحقيقات التي جرت في زمن ريتشارد نيكسون منتصف السبعينات أو في زمن بيل كلينتون قرب نهاية التسعينات.

الزاوية الثانية: تتعلق بطبيعة التهم التي قد توجه إلى ترامب بعد الانتهاء من التحقيقات التي يقودها روبرت موللر حالياً، والتي تدور حول احتمال تدخل الاستخبارات الروسية لمصلحة ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2016. فإذا تبيّن أن روسيا تدخلت بالفعل في هذه الانتخابات، وكان لتدخلها تأثير ملموس في نتائجها، وكان ترامب على علم مسبق بهذا التدخل وضليع فيه وتمَّ لحسابه بهدف تمكينه من الوصول إلى البيت الأبيض، بصرف النظر عن دوافع الروس من ورائه، فسنكون إزاء أبعاد جديدة ومختلفة تماماً عن كل ما شهده النظام السياسي الأميركي في تاريخه من قضايا تتعلق بعزل الرؤساء. فليس من المستبعد حينئذ أن تكيف قضية ترامب من الناحية القانونية باعتبارها «قضية تخابر وتواطؤ مع دولة أجنبية» مثلاً، إما إذا تبيّن أن التدخل الروسي تسبّب في فوز ترامب فستصبح انتخابات 2016 مزوّرة، وفي هذه الحالة لن يكتفي بعزل ترامب وإنما سيمتد الأثر إلى نائبه مايكل بنس الذي لن يكون بمقدوره حينئذ قيادة الدولة خلال الفترة المتبقية من ولاية ترامب، كما يقضي الدستور الأميركي، لأنه جاء نائباً على بطاقة الترشح نفسها في انتخابات ثبت بطلانها. صحيح أن تحقيقات موللر كشفت ضلوع ترامب في قضايا فساد مالي وأخلاقي عدة، لكن تلك أمور ستبدو ثانوية جداً بالمقارنة بجوهر القضية موضوع التحقيق، بخاصة إذا ثبت بالدليل القاطع أن ترامب كان على علاقة بالاستخبارات الروسية وأن فوزه في الانتخابات جاء ثمرة لتدخلها. ويشار إلى أن الاعتقاد السائد في الولايات المتحدة حالياً يؤكد أن التدخل الروسي، حتى في حال ثبوته، لم يؤثر في النتيجة النهائية لانتخابات 2016، غير أن التحقيقيات هي وحدها الكفيلة بإثبات أو نفي هذه المقولة. وأياً كان الأمر فلا شك في أن فهم طبيعة التحقيقات الجارية حالياً وما قد تسفر عنه من نتائج يتطلب التمييز وعدم الخلط بين بعديها القانوني والسياسي. فمن الناحية القانونية البحتة، لن تتأثر تحقيقات موللر مطلقاً بالأجواء السياسية المحتقنة في الداخل الأميركي حالياً، لأنها تجري داخل جهاز قضائي هدفه الوحيد كشف الحقيقة بكل تفاصيلها ولديه من الضمانات التي يكفلها النظام السياسي الأميركي ما يكفي لتمكينه من ممارسة عمله بحرية واستقلال تامين. أما عزل الرئيس من عدمه على ضوء ما انتهت إليه التحقيقات فسلطة تقديرية للكونغرس، أي مسألة سياسية بامتياز. فالدستور الأميركي يجيز عزل الرئيس إذا ثبتت عليه تهمة الخيانة أو الرشوة أو غيرها من «الجرائم أو الجنح الكبرى»، ولمجلس النواب وحده الحق في توجيه الاتهام بقرار يصدر بالغالبية البسيطة، أما محاكمة الرئيس فهي من اختصاص مجلس الشيوخ وبرئاسة رئيس المحكمة العليا، فإذا ثبتت إدانة الرئيس فسيحتاج قرار العزل إلى قرار من الكونغرس بمجلسيه، أي مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين، وبغالبية الثلثين. لذا يمكن القول إن انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي ستكون حاسمة في هذا الصدد. فتلك الانتخابات التي ستجري في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ستشمل كل مقاعد مجلس النواب وعددها 435، وثلث مقاعد مجلس الشيوخ، أي 33 مقعداً (من بينها 23 مقعداً كان يشغلها شيوخ ينتمون إلى الحزب الديموقراطي و8 مقاعد كان يشغلها شيوخ ينتمون إلى الحزب الجمهوري). فإذا استطاع الحزب الديموقراطي أن يحصل على غالبية مريحة في مجلس النواب فسيساعد ذلك على توليد مزيد من الضغوط لعزل ترامب في حال إدانته في أي من الجرائم أو الجنح المنصوص عليها في الدستور. صحيح أنه يصعب وربما يستحيل توقع حصول الحزب الديموقراطي على غالبية الثلثين في الكونغرس بمجلسيه، لكن الشيء المؤكد أن أعداد النواب والشيوخ من الجمهورين المؤيدين لعزل ترامب ستزداد كثيراً إذا توصلت التحقيقات إلى أدلة قاطعة تدين ترامب. أي أن الفيصل في النهاية سيكون لحساب ترجيح الاعتبارات القانونية على السياسية. ذلك أن التقاليد السياسية الراسخة في الولايات المتحدة تشير إلى أن الحفاظ على سلامة النظام السياسي الأميركي وفاعليته أهم لدى الحزبين الكبيرين من أي اعتبار آخر. في سياق ما تقدم يبدو أن العالم، وليس أميركا وحدها، ستصل في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل إلى مفترق طرق قد تتقاطع عنده أمور كثيرة حاسمة. ففيه ستجري انتخابات تشريعية أميركية مهمة ستحدد مصير دونالد ترامب، وفيه أيضاً ستبدأ عقوبات أميركية قاسية على إيران قد تحدد مستقبل ومصير الشرق الأوسط برمته.

نأمل بأن تكون المحصلة في الحالتين هي بداية العد التنازلي لأيام ترامب الأخيرة في البيت الأبيض.

* كاتب مصري

عن الحياة اللندنية