عمر حلمي الغول - النجاح الإخباري - وجود ونشوء الديمقراطية في بلد من البلدان مشروط بتطور اقتصادي واجتماعي وثقافي معين. ولا يمكن لنظام من الأنظمة لمجرد أن يرفع شعار الديمقراطية، أو وضعها ضمن إحدى مواد الدستور أن يكون ديمقراطيا. هناك فرق شاسع بين المسألة النظرية والقانونية وبين الواقع الاجتماعي والاقتصادي الشرط الضروري لبلوغ عتبة الديمقراطية، وايضا بين القدرة على تمثلها وترجمتها على الأرض، لأن الديمقراطية ليست ثوبا أو موضة يستطيع أي نظام ان يتلفع بها في أي زمان ومكان.
كثيرة هي الأنظمة العالم ثالثية التي رفعت شعارات الديمقراطية، وثبتتها في دساتيرها، ونادى بها هذا المسؤول أو ذاك الرئيس، وهتفت بها قوى سياسية في الموالاة والمعارضة في بلدان مختلفة، لكنها في معظمها فشلت في ولوج حيز الديمقراطية، لأن المجتمع في تلك الدول لم يبلغ مستوى من النضج الفكري السياسي والتطور الاقتصادي والاجتماعي، الذي يسمح لها بالتطبيق الحقيقي لمحددات الديمقراطية، لأنها ما زالت مجتمعات تخضع لعدد من الأنماط الاقتصادية وعلاقات الإنتاج الما قبل رأسمالية، وكون قوى الإنتاج ضعيفة، والصناعات غير موجودة، وإن وجدت فهي هامشية، وثقلها في المركب الطبقي للمجتمع ثانوي، ما جعلها تعيش حالة من التشوه الاجتماعي القبلي والعشائري والنظام البطريركي (الأبوي) او الثيوقراطي. وحتى بعض الأنظمة، التي وجدت بها صناعات تقليدية، وتجاوزت بالمعايير النسبية الأشكال المذكورة من الأنظمة العالم ثالثية آنفة الذكر، لم تتمكن من ترسيخ الديمقراطية في مجتماعاتها إما لطبيعة الأنظمة السياسية العسكرتارية، غير المستعدة لتقبل الرأي الآخر، والرافضة منح مساحة من الحرية الفردية والإجتماعية لأبناء الشعب، وعرقلت،  تطور المجتمع، أو لغياب وضعف القوى السياسية والاجتماعية القادرة على حمل لواء الديمقراطية. أو ذهاب بعض الأنظمة لرفع شعار الديمقراطية "الغريبة عن الديمقراطية" البرجوازية، أي الديمقراطية المفصلة على مقاس النظام السياسي، والتي لا تختلف في الجوهر عن الأنظمة الكرتونية الاستبدادية، لأن نماذج الأنظمة العالم ثالثية لم تتشرب الديمقراطية، وبقيت غير مؤهلة في تطبيقها. 
والديمقراطية، كما اشير سابقا ليست قرارا من هذا الزعيم أو ذاك القائد (ملكا أو رئيسا)، ولا هي وصفة اجتماعية يتبناها هذا النظام أو ذاك، ولا يمكن أن تهبط بالبارشوت من خلال سياسة الإملاءات، التي تفرضها الدول الرأسمالية عموما والولايات المتحدة خصوصا على الأنظمة التابعة والخاضعة لمشيئتها السياسية والاقتصادية والأمنية، لأن الديمقراطية لها مرتكزاتها ومحدداتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقانونية، وأولها خروج النظام من دوامة الأنماط القبلية والعشائرية والأبوية؛ وثانيا فصل الدين عن الدولة كليا، وعدم السماح لأي مظهر من مظاهر الدين في الدستور والنظام العام، وترسيخ المساواة بين أبناء الشعب عموما دون أي تمييز؛ ثالثا ولوج مرحلة التطور الحقيقي في علاقات وقوى الإنتاج البرجوازية، التي تسهم في نقل المجتمع إلى مصاف مرحلة جديدة من التقدم والرقي السياسي والثقافي المعرفي القادرة على حمل تلك المرتكزات، وتجذيرها وتعميدها في الواقع عبر تشكل مجتمع طبقي واضح الملامح؛ رابعا إبعاد العملية الديمقراطية عن اية مظاهر عسكرتارية وأمنية، وتسيد القانون والنظام كناظم للعلاقات السياسية والإجتماعية والحزبية في المجتمع، بحيث تصبح الديمقراطية جزءا أصيلا من السلوك اليومي والطوعي لجماهير الشعب وطبقاته وفئاته الاجتماعية المختلفة؛ خامسا تعزيز الاستقلالية السياسية والاقتصادية للدولة ونظامها السياسي القائم، لأن التبعية للسوق والدول الرأسمالية يضعف ويبهت صورة ومكانة الديمقراطية في المجتمع نفسه وأمام العالم ككل، ولكن هذا العامل لا يحول دون وجود الديمقراطية في هذا النظام أو ذاك. غير أنه يحد ويؤثر على تطور العملية الديمقراطية، ويوقع النظام السياسي في أزمات وهزات سياسية وإقتصادية دورية مع الشعب وقوى المعارضة، لأن الحكومات لا تمتلك التقرير المستقل في سياساتها القومية.
قد يقول قائل، ان شعوب العالم في ظل التطور العاصف للعولمة، وتحويلها المجتمع البشري برمته لقرية صغيرة، أضعف العوامل المشار إليها آنفا، لأن ثورة الإتصالات والمعلومات سهلت التواصل بين الشعوب، وسمحت لتقريب المسافة بين الثقافات المختلفة، ونشأت نظريات الما بعديات "ما بعد الحداثة" و"ما بعد الأيديولوجيا" و"ما بعد الفلسفة"... إلخ، لكن أصحاب وجهة النظر هذه لم يتوقفوا أمام الوجه الآخر من العولمة، الذي سعت من خلاله لتفتيت وشرذمة الهويات الوطنية والقومية، وإرجاعها إلى الهويات البدائية الدينية والطائفية والمذهبية، ومست بهيبة الدولة القومية، وأحالتها إلى هيكل عظمي يعاني من الكساح والشلل نتيجة كسرها لحاجز الحدود الجيوبولتيكية والجمركية. رغم ذلك، ما زالت الدول الأقطاب (دول المركز) وحتى دول المحوطة، رغم هشاشتها تحافظ على خاصياتها القومية والاقتصادية. وبعد ثلاثين عاما من العولمة تعيد الإدارة الترامبية المحافظة والشعبوية العالم إلى رشده، وهذا ما سنعالجه في الحلقة القادمة، لكن المهم هنا أن العولمة لم تتمكن من إلغاء الشروط الاقتصادية والاجتماعية المذكورة سابقا، مع انها سهلت على المجتمعات المتخلفة الاقتراب أكثر من المجتمعات الحديثة، لكنه التسهيل الشكلي والمظهري، وليس الجوهري.   
والديمقراطية في كل المجتمعات ليست العملية الانتخابية فقط على أهميتها، انما هي أعمق وأوسع من ذلك، هي تحرر المجتمع نفسه من كل اشكال الاستبداد، وخلق المناخ المناسب لحرية الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير والتظاهر والاعتصام والتنظيم. وجميع هذة الأسس تفتقد لها الأنظمة السياسية في العالم الثالث بمعظمها. وإن وجدت بعض مظاهر الديمقراطية هنا أو هناك، فهي جزئية ونسبية.
[email protected]