خيرالله خيرالله - النجاح الإخباري - غاب أحمد سعيد عن ثلاثة وتسعين عاما، لكن الهزيمة التي كان رمزا من رموزها، بقيت. بل توسّعت. زادت الهزيمة مساحة وزادت عمقا في ظلّ هبوط مستوى الوعي على الصعيد العربي. صمت أحمد سعيد بعد الهزيمة، لكنّ المدرسة التي اسسّها بقيت حيّة ترزق.

الى من لا يمتلك ذاكرة او ولد بعد الهزيمة، كان احمد سعيد المذيع الأكثر شهرة في العالم في مرحلة ما قبل العام 1967. سكت مع سكوت المدافع واكتشاف ان سيناء صارت محتلة بعد فضيحة تدمير طائرات سلاح الجوّ المصري في قواعدها وانّ الجولان صار تحت السيطرة الاسرائيلية وان القدس والضفّة الغربية صارتا أرضا متنازعا عليها وليس ارضا محتلّة.

كان صمت احمد سعيد بعد هزيمة 1967 صمتا بليغا. أعطى فكرة عن الأخطاء الجسيمة القاتلة التي ارتكبها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عبر إذاعة اسمها "صوت العرب" من القاهرة. كانت "صوت العرب" الاذاعة التي يعشقها معظم العرب من المحيط الى الخليج. وكانت سلاح عبد الناصر في حربه على الانظمة العربية التي ترفض ان تدين له بالولاء والاعتراف بأنه "بطل العروبة الخالد" الذي يؤمن بانّ "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وان "ما اخذ بالقوة لا يستعاد الّا بالقوة".

كان أحمد سعيد يبيع الأوهام عبر "صوت العرب". شاءت الصدف ان يموت الرجل قبل يوم واحد من الذكرى الـ51 لهزيمة ترفض ان تموت وما زالت مستمرّة. صمت احمد سعيد بعد الهزيمة، لكن صمته لم يكن كافيا كي تتوقف مفاعيل ما اسفرت عنه حرب الايام الستة. لا يقتصر الامر على احتلال إسرائيل للأرض بمقدار ما يتعلّق الامر بهزيمة للعقل العربي، هذا اذا كان هناك في الأصل عقل عربي يخطط للمستقبل ويتعاطى مع الواقع وموازين القوى القائمة بدل اعتبار الاحلام حقيقة مجرّدة.

كلّ ما يمكن قوله بعد نصف قرن وسنة واحدة على الهزيمة انّ المنطقة كلّها تغيّرت نحو الأسوأ. لم يوجد من يريد ان يتعلّم شيئا من دروس حرب 1967. كان الاستثناء الوحيد أنور السادات وفي مرحلة لاحقة الملك حسين، رحمه الله.

عمل العاهل الأردني الراحل الذي حاربه عبدالناصر من دون كلل ووصفه باسوأ النعوت، كلّ ما يستطيع من اجل استعادة القدس والضفّة الغربية. اكتشف لاحقا انّ معظم العرب لا يريدون ذلك وان الفلسطينيين أنفسهم لا يفضلون أن يستعيد الأردن الأرض ويسعى الى صيغة الفيديرالية او الكونفيديرالية التي تلائم الطرفين.

أسوأ ما في الأمر انّ هناك من أراد أن يدفع لبنان ثمن القرار الحكيم الذي اتخذه رئيس الجمهورية وقتذاك (شارل حلو) والقاضي بعدم المشاركة في حرب الايّام الستة. حافظ لبنان على ارضه، لكن جهات عربية اصرّت على حمل شارل حلو على ارتكاب جريمة توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. عاد ذلك بالويلات على لبنان. لا يزال البلد يدفع الى اليوم ثمن اتفاق القاهرة بعدما أصبح السلاح غير الشرعي فيه إيرانيا بدل ان يكون فلسطينيا.

كيف يمكن لمجموعة من الزعماء العرب الّا تتعلّم شيئا من هزيمة ؟1967. كيف يمكن لأحمد سعيد، الذي امتلك فضيلة اسمها الصمت، ان يصبح مدرسة بحدّ ذاتها على صعيد المنطقة كلّها.

تصعب الإجابة عن مثل هذا السؤال، لكنّ الهزيمة، التي اسّس لها العقل الذي كان يتحكّم باحمد سعيد، فرّخت هزائم. هناك هزيمة لحقت بلبنان. هناك هزيمة لحقت بسوريا وأخرى بالعراق. كلّ ما نشاهده الآن هو من ذيول هزيمة العام 1967 وما مهّد لتلك الهزيمة حين كان احمد سعيد يستشهد بمقالات محمد حسنين هيكل الذي لعب الدور الأكبر في التنظير للهزيمة.

في واحد وخمسين عاما توالت الهزائم. الهزيمة العربية الكبرى كانت في الاعتقاد بانّ عزل مصر بعد توقيعها معاهدة سلام مع إسرائيل سيقود الى شيء ما غير مزيد من الشرذمة وخدمة لإسرائيل وصعود لايران. من ورث احمد سعيد كان العقل البعثي الذي تحكّم بسوريا والعراق. لم يجد هذا العقل ما يفعله بعد ذهاب أنور السادات الى القدس في تشرين الثاني – 1977 سوى عقد قمم لـ"جبهة الصمود والتصدي" كانت اولاها في ليبيا – معمّر القذافي، وصولا الى قمّة بغداد في 1978 في ظلّ مصالحة بين حافظ الأسد من جهة واحمد حسن البكر وصدّام حسين من جهة اخرى. كانت مصالحة لم تعمّر طويلا. كانت تنطلق من عقلين غير مكتملين لدى صدّام حسين وحافظ الأسد. الفارق ان الأسد الاب عرف كيف يجرّ العراق الى حيث لا يجب، أي الى جانبه بعدما كان راهن طويلا على السادات وخاض معه حرب 1973.

حالت المصالحة بين البعثين العراقي والسوري والتي كانت مبنية على ضلال دون موقف عربي واضح وموحد من الذي يجري في ايران حيث كان آية الله الخميني يستعد لازاحة شاه ايران ومباشرة لعبة جديدة تقوم على الاستثمار في الغرائز المذهبية. في أساس هذه اللعبة ما يخدم ما بشّر به في العمق احمد سعيد الذي كان في الواقع صوت جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل.

كان الهدف دائما تدمير كلّ ما هو حضاري في المنطقة العربية. هذا ما فعله جمال عبد الناصر عندما طرد الجاليات الأجنبية من مصر معتقدا انّه انتصر على بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في 1956 في حين ان الولايات المتحدة كانت وراء وقف العدوان الثلاثي على مصر. كذلك، هذا ما فعله عبد الناصر الذي قبل بالوحدة مع سوريا. قضى بكل بساطة على القوى الحيّة في المجتمع السوري مثلما قضى قبل ذلك على القوى الحيّة في مصر.

هذا العقل البعثي كان امتدادا مباشرا لعقل احمد سعيد. انّه العقل الذي استغلّه الخميني الى ابعد حدود عندما دمّر الذي خلفوه العراق شرّ تدمير. لعب النظام الذي اسسه لاحقا دورا كبيرا في إيصال سوريا الى ما وصلت اليه سوريا. فوق ذلك كلّه، لم يوجد في أي يوم ادراك حقيقي على صعيد المنطقة لما فعلته ايران في لبنان منذ العام 1982.

توفّى احمد سعيد قبل ايّام في الذكرى الـ51 للهزيمة. لا يزال الرجل الذي كان صوت جمال عبد الناصر والذي كان يستطيع انزال الانسان العربي الى الشارع حاضرا اكثر من ايّ وقت. مات احمد سعيد ولم تمت الهزيمة. ما يدل على ذلك سؤال في غاية البساطة: ماذا بقي من دمشق وحلب وحمص وحماة؟ ماذا بقي من بغداد والبصرة والموصل؟

بقي ان الهزيمة صارت هزائم وان فلسطين لم تعد قضيّة العرب، لا القضيّة الاولى ولا الثانية ولا الثالثة. بدل محنة الاحتلال الإسرائيلي، صار الكلام عن محن. في كلّ مدينة عربية كبيرة تعمل ايران من اجل تدميرها، مباشرة او عبر ادواتها، توجد محنة...