تييري دي مونبريال - النجاح الإخباري - كان موقف روسيا من انسحاب أميركا من الاتفاق الإيراني وسقوط القتلى في غزة، معتدلاً. فالوقوف موقف المتفرج يصب في مصلحتها في انتظار توسع الشقاق بين ضفتي الأطلسي الأوروبية والأميركية لاستغلاله. وتخرج موسكو صورتها على أنها قوة منطقية على خلاف ولايات متحدة تنساق وراء أهواء رئيسها. والاعتدال غلب على موقفها من إسرائيل كذلك. وباريس وموسكو قد لا تجمعان على موقف واحد من الملف السوري أو الأوكراني أو الإيراني، ولكن مصالح مشتركة تجمعهما.

ويحسِب دونالد ترامب أن إيران ستضطر إلى النزول على رغبته في المفاوضة على اتفاق جديد يكرس لفظها إلى الأبد السلاح النووي، ويقيد فيه برنامجها الصاروخي الباليستي ونفوذها الإقليمي. وهو يأمل في أن ينتفض الإيرانيون، ومعاناتهم تتعاظم جراء تدهور أحوالهم الاقتصادية، وأن يطيحوا نظام الملالي. ولكن الرياح قد لا تجري على ما يشتهي البيت الأبيض، وقد لا تكون حساباته في محلها. فاليوم، لا بديل من النظام الإيراني. والتجارب الأخيرة في تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط انتهت إلى كوارث. وقد يُرجح المرشد الأعلى كفة المحافظين على كفة المعتدلين. وفي وسع الباسدران، الحرس الثوري الإيراني، النفخ في المشاعر الإيرانية القومية واعتداد الإيرانيين برفض الإملاءات الخارجية. وعلى رغم ضعف قدراتها الاقتصادية، قدرات طهران على التخريب في الشرق الأوسط، هائلة. وإذا رجحت كفة المحافظين، تعاظمت مخاطر حرب مفتوحة بينها وبين إسرائيل أو بينها وبين دولة عربية بارزة. ومثل هذه المواجهة لا تقتصر على هذه القوى الإقليمية، بل تترتب عليها مشاركة قوى خارجية. ولكن، في مثل هذه الظروف، هل في يد طهران قبول تعديل الاتفاق الإيراني وتوسيع نطاقه على نحو ما تقترح فرنسا؟ لا يخفى أن الرئيس الإيراني، حسن روحاني، ووزير خارجيته، جواد ظريف، يسعيان إلى كسب الوقت، شأن الدول كلها التي تحاول تجنب الرد المباشر على لكمات ترامب. وإثر أزمة الملف النووي الإيراني (الانسحاب الأميركي)، أدرك الأوروبيون أكثر فأكثر مدى ارتباط النظام المصرفي الدولي برغبات واشنطن، المتقوقعة على نفسها. والتقوقع هذا لن ينقضي مع انقضاء ولاية ترامب. وهم، الأوروبيين، يحاولون الفكاك من شراك السياسة الأميركية المتقوقعة هذه. فأعظم قوة عسكرية في العالم تشهر اليوم سلاح اقتصادها في وجه حلفائها. والصينيون يشعرون كذلك بالقلق إزاء الهيمنة المصرفية- الاقتصادية الأميركية، ولكنهم في موقع أقوى من الأوروبيين، ويسعهم الرد. ومهما آلت إليه الأمور، النتائج المترتبة على الموقف الأميركي عميقة ومستدامة. فالتحالف الأطلسي لن يعود إلى سابق عهده. وألمانيا نفسها تتساءل عن مستقبل العلاقة العابرة للأطلسي. ولكن، هل فرنسا قادرة على توحيد الموقف الأوروبي في وجه الابتزاز الأميركي؟ قد يفلح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في الصمود في وجه أميركا.

والطعن في الاتفاق النووي الإيراني يصب في مصلحة روسيا والصين، ولا يخدم مصالح الأوروبيين. وفي السنوات الأخيرة، تقربت إيران من الصين، وهذه تسعى الى التحول قوة راجحة في الشرق الأوسط. وإذا تفاقم تدهور الأوضاع والفوضى، زادت سيول اللاجئين وتفاقم الإرهاب. ومع الفوضى، ترتفع أسعار البترول فتقطف الدول المنتجة الثمار، وتضرس الدول المستوردة. والأوروبيون في مثل هذه الحال أكثر المتضررين.

واليوم، يجمع بين الأعداء في الشرق الأوسط رغبة مشتركة في مكافحة تمدد «الإخوان المسلمين» والإرهاب. والحادي على التقارب هذا هو الخوف من إيران ومن احتمال حيازتها سلاحاً نووياً. وفيما خلا تركيا، كانت الاحتجاجات على نقل السفارة الأميركية الى القدس ومجازر غزة، خافتة الأصوات. فالتوازنات في المنطقة تخالف مصالح الفلسطينيين. وبكين قد تستفيد من الاضطرابات في الشرق الأوسط على الأمدين القصير والبعيد. فالفكر السياسي الصيني يميل إلى احتساب المدى الزمني وليس الآني فحسب. والنظام السياسي الصيني في منأى من تحولات تداول السلطة. والصينيون يتأنون في التلاعب بخصومهم ويستدرجونهم إلى الفشل. فالصين هي البلد الوحيد في العالم الذي ينتهج اليوم «استراتيجية كبرى». وعلى سبيل المثل، ترامب يملك رؤية سياسية ولكن جعبته خاوية من رؤية استراتيجية. وهو صاحب حيلة، ويخال أن في وسعه إرباك الخصوم والأصدقاء وخداعهم. ولكنني أعتقد أن كيم جونغ- أون يفوقه حيلةً. فالديكتاتور الكوري الشمالي بلغ ما يصبو إليه، أي انتزاع اعتراف بمكانة بلده قوة شبه نووية. وهو يرمي إلى دوران عجلة النمو الاقتصادي في كوريا الشمالية، وترسيخ نظامه. وعاجلاً أو آجلاً، سيطعن في صدقية أميركا، البلد الذي لا يلتزم ما يصادق عليه من اتفاقات. ولا ريب في أن كيم جونغ- أون وشي جينبيغ تعاونا مع كوريا الجنوبية في إخماد التهديدات الأميركية. وأدرك ترامب أن حساباته لم تكن مصيبة. وسبحة المفاجآت تتوالى. وعملية السلام في شبه الجزيرة الكورية طويلة، ولن تحرك عجلتها التغريدات على «تويتر».

* محلل، رئيس مؤسس لمعهد العلاقات الدولية الفرنسي، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 25/5/2018، إعداد منال نحاس

نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية