الدكتور حسن نافعة - النجاح الإخباري - لم يكف دونالد ترامب عن ارتكاب الحماقات منذ دخوله البيت الأبيض، بخاصة في مجال السياسة الخارجية، غير أن قراره الانسحاب من اتفاق البرنامج النووي الإيراني، ربما يكون أكثرها تهوراً وخطورة. فمن شأن القرار، خصوصاً إذا لم يتم العثور في المستقبل القريب على رؤية أميركية- أوروبية مشتركة لمعالجة الخلاف حول كيفية التعامل مع المسألة الإيرانية، أن يؤدي على المدى الطويل إلى انفصام عرى التحالف بين أوروبا والولايات المتحدة، وهو التحالف الذي شكّل الركيزة الأساسية للمعسكر الغربي الذي تمكّن من تحقيق الانتصار في الحرب الباردة ودفع الاتحاد السوفياتي نحو التفكك والانهيار في نهاية ثمانينات القرن الماضي.

من المعروف أن فرنسا وبريطانيا وألمانيا، والتي تشكل مركز الثقل الرئيس في القارة الأوروبية، هي التي بادرت منذ العام 2005 بالتواصل مع إيران، بهدف الحد من طموحاتها النووية؛ خصوصاً بعد أن تبين أن برنامجها لهذا الغرض بدأ يحقق تقدماً لافتاً في مجال تخصيب اليورانيوم. وحين تمكنت المشاورات الأوروبية- الإيرانية التمهيدية من تحقيق تقدم معقول، بدأت تتحول رويداً رويداً إلى مفاوضات رسمية تشارك فيها الولايات المتحدة وروسيا والصين، أي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، وهي المفاوضات التي انتهت بالتوقيع في 30 حزيران عام 2015 على الاتفاق الذي عرف إعلامياً باسم «5+1». غير أن دونالد ترامب، والذي كان أخذ على عاتقه منذ حملته الانتخابية، شيطنة إدارة أوباما ومحو إنجازاتها، راح يصور هذا الاتفاق وكأنه من وحي الرئيس السابق وحده ويعتبره دليلاً قاطعاً على أن «أوباما هو الرئيس الأسوأ في التاريخ الأميركي»، ولذا تعهد بتمزيقه في حال تمكنه من دخول البيت الأبيض، وهو ما قام به بالفعل. ولأن ترامب لم يتشاور مع أي من الدول الأطراف قبل أن يقرر الانسحاب من هذا الاتفاق، بل وتعمد إحباط الجهود الأوروبية التي بذلت لإقناعه بالإبقاء على الاتفاق ومواصلة الضغط المشترك على إيران في المستقبل لحملها على معالجة ما قد ينطوي عليه من أوجه قصور، لم يكن أمام الدول الأوروبية إزاء هذا الصلف سوى الاختيار بين أحد بديلين: الأول: الانصياع لإرادة ترامب بإعلان الانسحاب، رغم عدم اقتناعها بمبرراته وتأكدها من أنه يضر بمصالحها السياسية والاقتصادية الخاصة، الأمر الذي من شأنه إظهار الاتحاد الأوروبي وكأنه قوة لا تملك من أمرها شيئاً وليس أمامها سوى الدوران في الفلك الأوروبي، وتبدو عاجزة حتى عن الدفاع عن مصالحها الخاصة حين تتعرض للتهديد.

الثاني: تحدي هذه الإرادة، بتأكيد استمرار التزامها بالاتفاق النووي مع إيران والعمل على إنقاذه وعدم تعريضه للانهيار حتى لو أصرت الولايات المتحدة على الانسحاب منه، الأمر الذي قد يؤدي إلى صدام مباشر بينهما، خصوصاً إذا مضى ترامب قدماً في إعادة فرض العقوبات على إيران ومعاقبة الشركات الأوروبية التي لا تلتزم بها، بكل ما ينطوي عليه هذا الصدام من تداعيات يصعب التنبؤ بأبعادها. وبدا واضحاً أن الدول الأوروبية لم تتردد كثيراً قبل أن يستقر قرارها في النهاية على ترجيح البديل الثاني.

اعتبارات ثلاثة رجّحت في تقديري قرار التحدي وليس الانصياع لإرادة ترامب: أولها أخلاقي- قانوني، وثانيها سياسي- أمني، وثالثها اقتصادي- تجاري. فعلى صعيدي الأخلاق والقانون، لم يكن أمام الدول الأوروبية ما يبرر الانسحاب من اتفاق دولي شاركت في إبرامه بمحض إرادتها، بل ولعبت دوراً أساسياً في التمهيد له، خصوصاً وأنه لم يصدر عن الوكالة الدولية للطاقة النووية، الجهة الوحيدة المنوط بها متابعة تنفيذه، أي تقرير أو إعلان أو تصريح يشير من قريب أو بعيد إلى إقدام إيران على مخالفة أو انتهاك أي من بنوده. ولأن الدول الأوروبية تحرص في العادة على أن تراعي، من حيث الشكل على الأقل، توافر حد أدنى من الاعتبارات القانونية والأخلاقية عند تحديدها مواقفها من قضايا السياسة الخارجية، بعكس الولايات المتحدة الأميركية التي لا تتردد في الإطاحة بالاعتبارات القانونية والأخلاقية إذا تعارضت مع مصالحها الخاصة، لم يكن هناك من ذريعة يمكن الدول الأوروبية أن تتعلل بها لتبرير انسحابها من الاتفاق. وعلى الصعيد السياسي والأمني، يبدو واضحاً أن الدول الأوروبية باتت أكثر اقتناعاً بأن انهيار الاتفاق مع إيران سيؤدي حتماً إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط المتاخمة، خصوصاً أن انسحاب الولايات المتحدة تزامن مع قرار نقل سفارتها إلى القدس، الأمر الذي عكس بوضوح وقوع إدارة ترامب تحت النفوذ المزدوج لكل من اللوبي الإسرائيلي والتيار المسيحي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأميركية. ولأن مراكز صنع القرار الأوروبي لم تكن واقعة بالقدر نفسه تحت ضغط هذا النفوذ المزدوج، فقد كان من السهل عليها أن تصل إلى نتيجة مفادها أن لأوروبا مصلحة مؤكدة في العمل بكل السبل الممكنة للحيلولة دون وقوع حرب جديدة في المنطقة، انطلاقاً من قناعتها بأن اندلاع هذه الحرب لن يخدم سوى المصالح الإسرائيلية. وعلى الصعيدين الاقتصادي والتجاري، بدا واضحاً أن قرار الانسحاب الأميركي من الاتفاق وإعادة فرض العقوبات على إيران سيمكن الولايات المتحدة من فرض نفسها كشرطي وحيد للاقتصاد العالمي، الأمر الذي ترفضه أوروبا وترى أنه يتناقض تماماً مع مصالحها الاقتصادية والتجارية. لذا، كان على أوروبا أن تؤكد ليس فقط رفضها النهج الأميركي المتعنت وإنما أن تثبت أيضاً قدرتها على مقاومته وتحديه إذا أرادت تعزيز مكانتها لاعباً رئيساً على المسرح الدولي، على الأقل في المجال الاقتصادي. وأياً كان الأمر، فمن الواضح أن ترامب لم يتوقع تماسك أوروبا وتوحدها ليس فقط حول رفض قراره بالانسحاب من الاتفاق مع إيران وإنما أيضاً إصرارها على إنقاذه في الوقت نفسه. ويبدو أنه راهن في حساباته على موقف المملكة المتحدة التي اعتقد أن خروجها من الاتحاد الأوروبي سوف يضطرها لتبني الموقف الأميركي، غير أنه خسر هذا الرهان أيضاً، في إشارة جديدة إلى أن حماقاته تعدت كل الخطوط الحمر المقبولة حتى من أقرب حلفائه. ولأن صلف ترامب يبدو بلا حدود، فليس من المتوقع أن يقدم الرجل على تليين موقفه خلال الأشهر الست الممنوحة للشركات الأوروبية لإعادة توفيق أوضاعها، ومن ثم فمن الأرجح أن يواصل طريق المواجهة حتى النهاية، ربما اعتقاداً منه أن أوروبا لن تستطيع أن تشق طريقها بعيداً من الولايات المتحدة التي صنعت وحدتها. فكما صنعت الولايات المتحدة وحدة أوروبا بوسعها أن تهدمها أيضاً إن هي خرجت عن طاعتها.

صحيح أن طائرة الوحدة الأوروبية أقلعت على جناحين أميركيين، تمثلا في مشروع مارشال (الحماية الاقتصادية) وحلف شمال الأطلسي (الأمن)، غير أن أوروبا الآن ليست هي أوروبا التي كانت خرجت لتوها منهكة من الحرب العالمية الثانية. لكن يبدو أن ترامب لا يستطيع أن يدرك حقيقة أساسية وهي أنه لولا إقدام سياسيين أميركيين كبار يتمتعون برؤية ثاقبة على تقديم معونة اقتصادية وعسكرية كبيرة لأوروبا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، لما تمكنت الولايات المتحدة من مواجهة الاتحاد السوفياتي إبان فترة الحرب الباردة، ولربما كان التفكك والانهيار من نصيب الولايات المتحدة نفسها في النهاية بدلاً من الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك فمن المؤكد أن أوروبا، بإصرارها على تحدي الولايات المتحدة وإنقاذ الاتفاق مع إيران، وضعت نفسها موضع اختبار صعب، من ثم فعليها أن تجتازه بنجاح وإلا ستخسر الكثير... فكيف ستتصرف أوروبا؟

ما زال البعض يصور المسألة على أنها تقنية تتعلق بكيفية حماية الشركات الأوروبية، والتي كانت بدأت تتعامل مع إيران بمجرد دخول الاتفاق حيز التنفيذ وقامت بالفعل بضخ استثمارت كبيرة فيها، وبحث أنسب السبل لتحصين هذه الشركات في مواجهة العقوبات الأميركية. لذا يكثر الحديث في هذه الأيام عن لائحة المجلس الأوروبي لعام 1996، والخاصة بحماية الشركات الأوروبية من الآثار المترتبة على تطبيق التشريعات التي يعتمدها طرف ثالث خارج نطاق الاتحاد الأوروبي. غير أن القضية المطروحة حالياً، والتي لا أستبعد أن تتحول إلى أزمة كبرى، تبدو لي أكبر من ذلك بكثير؛ لأنها تتعلق بقدرة الاتحاد الأوروبي كتجمع إقليمي يبحث لنفسه عن دور في النظام الدولي، وما إذا كان هذا التجمع يملك من الأدوات والآليات ما يمكنه من لعب الدور الذي يطمح إليه بشكل مستقل تماماً حتى عن الولايات المتحدة الأميركية. أظن أن هذا هو السؤال الذي سيتعين على الاتحاد الأوروبي أن يقدم إجابة مقنعة عنه إذا أصرّ على مواصلة طريقه لحماية الاتفاق النووي مع إيران والحيلولة دون انهياره، في وقت تسعى الولايات المتحدة ليس فقط إلى إفشال هذا الاتفاق وإنما أيضاً لتوليد ضغوط داخلية وخارجية تكفي لإسقاط النظام الإيراني نفسه حتى لو اضطرت لشن الحرب عليه، إما مباشرة أو من خلال الحليف الإسرائيلي.